من ليبيا غرباً إلى القوقاز شرقاً، مروراً بسوريا والعراق واليونان…، جعل أردوغان منذ وصوله إلى قصر تشانقاي الرئاسي قبل أن ينتقل إلى القصر الأبيض، هذه الدائرة الجغرافية المتخمة بالصراعات التاريخية، والمصالح الدولية الاستراتيجية، ملعباً لتحقيق أحلامه الجامحة.
الرجل (أردوغان) الذي أخذ بيده مسؤول الاستخبارات الأميركي السابق، جراهام فولر، منذ أن كان رئيساً لبلدية إسطنبول في منتصف تسعينيات القرن الماضي ليقدم نموذجاً إسلامياً معتدلاً لتركيا والمنطقة، وجد في (ثورات الربيع العربي) لحظة تاريخية فارقة للانقلاب على ما سبق، وعلى ما روجه حزبه، العدالة والتنمية الحاكم، حول نظرية صفر مشكلات مع الجوار الجغرافي، ليحول تلك اللحظة إلى مشروع عثماني عبر استعادة خرائط التاريخ إلى سدة السياسة، وليقول لهذا الجوار إما أنا سلطانكم أو أقلب الحدود عليكم، ومن أجل ذلك لم يبقَ شيء ولم يجربه، فقد استخدم الإخوان المسلمين كجيش انكشاري لقلب أنظمة الحكم في العالم العربي، قبل أن يضع رأسهم على المقصلة عندما وجد الطريق إلى القاهرة والرياض وأبوظبي يقتضي منه التضحية بهم، والانقلاب على نفسه من أجل ديمومة سلطته، كذلك حول الفصائل السورية المسلحة التي خرجت لإسقاط النظام بعد أن وعدهم بذلك إلى مرتزقة في حروبه الكثيرة، قبل أن يضعهم في البازار السياسي من أجل مصافحة مع الرئيس السوري، بشار الأسد، ليصرف ذلك في الصندوق الانتخابي الذي بات هاجساً لا يفارقه ولو لحظة واحدة، وما يزيد مخاوفه من هذا الصندوق، تلك استطلاعات الرأي التي تشير إلى تراجع شعبيته حيث ظلُّ هزيمة انتخابات بلدتي إسطنبول وأنقرة تلاحقه، فيما سعر ليرته يتراجع أمام الدولار، لذا وجد أن غزوة عسكرية جديدة لشمال شرقي سوريا تزيد من شعبيته بحجة مكافحة الإرهاب، وهي بنظره أفضل وسيلة لحشد الحالة القومية التركية المتطرفة خلفه، لطالما قامت هذه الأخيرة على محاربة الكرد عبر التاريخ وأينما كانوا، وهكذا بات حديث أردوغان ومكنته السياسية والإعلامية، هو عملية عسكرية وشيكة تنتظر ساعة الصفر، قبل أن يكتشف أن الدول الكبرى، وتحديداً روسيا والولايات المتحدة، المعنيتان بالأزمة السورية لهما حسابات ومصالح تتجاوز حساباته، وليجد نفسه كمن وقع في خيوط العنكبوت بعد أن فشل في الحصول على ضوء أخضر من موسكو وواشنطن لعمليته العسكرية، وهو العارف جيدا أن أي عملية دون هذا الضوء ستكون مغامرة ترتد عليه في الداخل قبل الخارج، خاصة أن لعبته باتت مكشوفة للجميع.
يغمز أردوغان للأميركي والروسي من زاوية أهمية دوره في الحرب الروسية – الأوكرانية، فيرفع الصوت عالياً في وجهيهما، ويقول إنه يستطيع فعل كل شيء، وأنه لن يستأذن أحداً لغزوه الجديد لشمال شرقي سوريا، لكنه يدرك تماماً أن الأميركي الذي يحرص على عدم تلقف بوتين له، لن يسمح له بالذهاب خارج الخطوط الأميركية الحمراء بعيداً، وأن دور تركيا الوظيفي كورقة في سوريا والعراق وإيران والقوقاز والقفقاس هو ثابت في الاستراتيجية الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتشكيل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وأن خربشاته ممكنة شرط عدم الاصطدام مع هذه الثوابت.
الروس الذين لا يثقون بأردوغان، وخاضوا مع أجداده العثمانيين قرابة عشرين حرباً، يدركون جيداً لعبة أردوغان الخطرة في الجغرافية، ورقصه بين موسكو وواشنطن لاستعادة تاريخ اندثر، لكنهم أيضاً من أجل مصالحهم، لاسيما بعد الحرب على أوكرانيا التي لا تبدو نهاية قريبة لها، يدخلون معه في رقصة إدارة الخلافات من سوريا إلى القوقاز، وهم في ذلك يريدون أن تلعب تركيا دور حصان الطروادة في قلب حلف الناتو، وهي لعبة استغلها أردوغان جيداً في لي ذراع السويد وفنلندا، عندما أجبرهما على تقديم تنازلات له في قضية الكرد على مذبح عضويتهما المنشودة في الحلف.
الروس في لعبهم مع أردوغان يدركون أيضاً أن رسائل النار ينبغي أن تبقى حاضرة على الطاولة، لا سيما في إدلب التي جعل أردوغان منها أشبه بقندهار سوريا بعد أن جمع فيها كل الفصائل المسلحة والإرهابية، إذ باتت أشبه بمخزن حربي يمكن اللجوء إليه حين اللزوم، وما يزيد من القناعة بهذا الخصوص، تلك الرعاية التركية الكاملة لجبهة النصرة التي باتت أشبه بإمارة إسلامية أمام أعين الجميع رغم أنها مصنفة في قوائم الإرهاب.
أردوغان الذي يقف مذهولاً أمام الرفض الأميركي والروسي لعمليته العسكرية الجديدة في سوريا، لطالما نجح في السابق في تدوير الزوايا مع الجانبين، يحس في العمق أن المسألة أكبر من ذلك، وأن الأميركي بات يبحث عن خلف له في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة، خاصة أن الرئيس الأميركي، جو بايدن، سبق أن تعهد بدعم المعارضة التركية في الانتخابات للتخلص من أردوغان، وما الحملة التي تشنها الصحافة التركية على زعيم المعارضة التركية، كمال كليجدار أوغلو، والتسويق بأنه بدأ حملته الانتخابية من أميركا في إشارة لزيارته لها مؤخراً، إلا تعبير عن عمق المرارة لدى أردوغان، لكن ربما أكثر ما يؤرقه، جملة رفيق دربه السابق، أحمد داود أوغلو، عندما قال قبل فترة، ليذهب أردوغان إلى الجحيم، جملة يدرك أردوغان جيداً أنها لم تأت من الفراغ، ذلك الفراغ الذي يريد إشغاله بالضجيج، لطالما أن خيوط لعبة العنكبوت الأميركية – الروسية المرسومة في سوريا أكبر من طاقته إلا إذا كان يريد السقوط على رأسه في الملعب المسيّج بالأسلاك الشائكة الأميركية – الروسية.