الكرد ومئة عام من الكيماوي.. سيرة مقتضبة

بدى وزير المستعمرات البريطانية ونستون تشرشل متحمساً لاستخدام الغازات السامة لمواجهة ثورة العشرين في العراق وكردستان (1919 – 1920)، فقد كانت مهمة ضبط الأمن في الإمبراطورية شديدة التكلفة، الأمر الذي تطلّب الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة وقتذاك، ولتتحوّل كردستان إلى مختبر فعلي للأسلحة التي ستصبح النسخ الأولى للأسلحة المحرّمة دولياً، كأسلاف صواريخ النابالم والقنابل الفسفورية وغاز الأعصاب.

تحيّز تشرشل لاستخدام الغازات السامة ضد القبائل العربية والكردية “غير المتحضّرة”، واعتبر الغاز “وسيلة علمية” لا يجوز أن تُمنع من قبل أولئك الذين لديهم “أحكام مسبقة ولا يفكرون بوضوح”، وبطبيعة الحال خفّف تشرشل من خلال مجادلاته بشأن الأضرار الكارثية لوسائله العلمية تلك حال إطلاق القذائف بواسطة الطائرات أو المدفعية وأنها ستقتصر على المرض أو الإعطاب، فيما كان الواقع يعني اختناق المستهدفين. وعلى أي حال ليست هناك أرقام دقيقة تفيد بعدد الضحايا الكرد المختنقين بالغازات السامة التي استخدمتها حكومة جلالة الملكة.

كانت مهمّة البريطانيين قائمة على تأديب غير المتحضّرين، وهو ما سنجد ما يقابله في إعلانات الجمهورية التركية الرسمية قبيل مذبحة ديرسم (1937-1938) ووصف الحرب بأنّها “مهمّة حضارية تركية”.

على أي حال، كان موديل القتل الحضاري متفشّياً في العوالم الفاشيّة والنازية الناشئة بدرجة أعلى، فإيطاليا الفاشية إبان غزوها الوحشيّ لإثيوبيا استخدمت الأسلحة الكيماوية على نطاق واسع في عام 1935، وكان الأمر ملهماً للفاشيين الأتراك أيضاً؛ فالمساحة المشتركة بين تركيا وإيطاليا تمثّلت في زحف “العلموية المبتذلة” لذهنية الطغم الحاكمة، تلك العلموية التي تطوّرت رفقة النظريات العنصرية على نحو محموم، فمع تطوّر علم الأحياء الدقيقة على يد الفرنسي لويس باستور صار النظر إلى العناصر الداخلية غير الممتثلة للفاشية توصف بأنها “جراثيم” ولابد من التخلّص منها عبر سياسات “التطهير”، وبهذا المعنى كانت “المناعة” تعني القضاء المبرم والوحشي على غير المتحضّرين.

وبعد أقل من عقدين ستشهد ديرسم الكردية حدثاً مشابهاً لما جرى في كردستان العراق؛ فمع صدور قانون تونجلي عام  1935 تم فصل ديرسم عن ولاية آلازيغ “العزيز” وتغيير اسمها إلى “تونجلي”، وكانت طبول حرب الإبادة تقرع في أنقرة، ولئن كان وزير الداخلية شكرو كايا قد تحدّث عن “خرّاج بحاجة لتدخّل جراحي عسكري”، فإن التدابير على الأرض كانت شديدة القسوة لجهة الارتكابات التي شملت القتل العشوائي وحرق الديرسميين بعد رشّهم بالكيروسين وصولاً لاستخدام الغازات السامّة لمواجهة جيوب المقاومة الشعبية المختبئة في الكهوف والجبال، وإذا كانت الحقائق مخبأة في الأرشيف العسكري حول طبيعة تلك الغازات السامة المستخدمة، فإن ابنة أتاتورك بالتبنيّ صبيحة كوكجن في مذّكراتها، والتي كانت أوّل امرأة تقود طائرة مقاتلة، أنكرت إبان مشاركتها في قصف ديرسم استخدام الغازات السامة، فيما يؤكّد الباحث في معهد الهولوكوست والإبادة الجماعية، يوغور أوميت أونغور، استيراد تركيا مادة “زيكلون بي” من ألمانيا النازية قبيل مذبحة ديرسم، وهي ذات المادة التي ستُستخدم لاحقاً في غرف الغاز بمعسكرات الموت في أوشفيتز وداخاو…

 شكلت برامج الشهادات الشفهية، وشهادات الناجين ومتقفي أثر المذبحة واحداً من أبرز المصادر التاريخية في ظل التعتيم الحكوميّ، كشهادة الناجي وأحد المنخرطين في المقاومة، الدكتور نوري ديرسمي، والتي صدرت في كتاب عام 1952، وشهادة الكاتب موسى عنتر المتواترة على لسان جنود أتراك كانوا هناك، وصولاً للتكييف القانوني للباحث التركي إسماعيل بيشكجي الذي أطلق على تلك المذبحة وصف “الإبادة الجماعية”، وجهود الباحث الهولندي مارتن فان برونسن لجهة مطابقة الإبادة في ديرسم بتلك الفظاعات التي وقعت في “الغرب المتوحّش” حيث زعم الأمريكيون الأوائل أن السكان الأصليين برابرة يتوجّب التخلّص منهم.

في مكان ما، مثّل سكان ديرسم نموذج الضحية المثالية بما هم كرد علويون وناطقون باللهجة الزازية، وهو ما يجعل الحرب الحضارية ووسائلها “الحضارية” أشد حضوراً في مشهد الإبادة.

وبطبيعة الحال، كانت حلبجة 1988 أوضح أمثلة استخدام الكيماوي جلاءً، وفيها برزت الصورة الأشد قتامة لسياسة “الحل الأخير” الصداميّة، أو الطبعة البعثية للهولوكوست النازي، والجريمة التي حاول مرتكبوها وجمهورهم التنصّل منها عبثاً، فهو العار الأبدي الذي لا يسرّ أشدّ المجرمين قسوة من تحمّل خزيه. كمحاولات تهرّب الثنائي صدام حسين وعلي حسن المجيد (الكيماوي) من الاتهامات المسنودة إلى الأدلة البيّنة إبان محاكمتهما.

ولعل حلبجة لم تكن لتقع لو أن العالميَن المتحضّرَين، الشيوعي والرأسمالي، تحركا في المراحل الأولى لاستخدام نظام صدّام الأسلحة الكيميائية في مخيّمات اللاجئين الكرد بإيران عام 1986 وفي قرى شيخ وسان وسركلو عام 1987، رغم أن الديمقراطي الكردستاني أصدر بعد قليل من مجزرة حلبجة لائحة ضمت 65 موقعاً قصفته القوات العراقية بالغازات السامة، فيما عرض الاتحاد الوطني 40 تسجيلاً  مصوراً في واشنطن وعواصم أوربية حول استخدام الكيماوي في العديد من المواقع.

في عام 2009 وصف الرئيس التركي أردوغان ما حصل في ديرسم بأنها “مذبحة”، بيد أن مفاعيل تلك الكلمة لم تتحوّل إلى برنامج عمل يسعى للكشف عمّا جرى آنذاك، ولو أن الدولة التركية كشفت عن الجانب الأشد قتامة في تلك المذبحة والمتمثّل باستخدام تلك الغازات لكان الحذر أعلى فيما خص اللجوء لاستخدام الأسلحة الكيمائية خلال مواجهة حزب العمال الكردستاني في هذه الغضون.

يزداد اليقين، في هذه الأثناء، وتتراكم الأدلة حول تورّط الجيش التركي في استعماله الأسلحة الكيماوية خلال المواجهات العدمية بكردستان العراق. التسجيلات المصوّرة التي نشرها العمال الكردستاني أثبتت لجوء الجيش لهذه الأسلحة، وكذا مطالبات اتحاد الجماعات الطبية الدولي بفتح تحقيق مستقل في هذا الصدد يؤيّد رواية الكردستاني، والأهم من ذلك كانت الفضيحة التي فجّرتها شبنم كورور فنجانجي رئيسة اتحاد أطباء تركيا وواحدة من علامات الطب الشرعي في البلاد، حول مشاهداتها التي تؤيد أيضاً رواية الكردستاني، فيما يأتي اتهامها بتشويه “سمعة الجيش التركي” و”نشر الدعاية الإرهابية” كجزء من آلة تكسير جهود نشطاء حقوق الإنسان الساعين إلى تعطيل استخدام الأسلحة المحرمة دولياً بصرف النظر عن “العدو” المستهدف.

وإذا كان اللجوء إلى الكيماوي قريناً بحالة اليأس في القضاء على الكردستاني من جهة، فإنه إلى ذلك تعبير عن حرب حضاريّة  تمتد سلالياً إلى عالم حروب الدول الفاشيّة والاستعمارية التي ترى في استخدام الكيماوي والفوسفور الأبيض والنابالم والأجيال المحدّثة الأشد فظاعة منها وسيلة للتغلّب على الجماعات التي لا يلتفت العالم لها، كما في حالة المدنيين والمقاتلين الكرد، أو بمعنى أدق: ثمّة تصوّر مستدام عن حرب حضارية مستمرّة تجاه الشعوب البدائية التي صارت تسميتهم الشائعة “الإرهابيين”، بكل ما تضفيه هذه التسمية من تبرير لاستخدام جميع صنوف الأسلحة المحرّمة دولياً.