مستقبل علاقات تركيا والناتو وواشنطن بعد غزوة الجولاني لعفرين

وقّعت تركيا في 4 أبريل/ نيسان 1949 في واشنطن على معاهدة شمال الأطلسي، وفي 17 أكتوبر/ تشرين الأول 1951 وقّعت بروتوكول الانضمام إلى حلف الناتو الذي يضمّ 30 دولة حاليًّا، وفي 18 فبراير/ شباط 1952 حصلت تركيا على العضوية بشكل رسمي، لتصبح منذ ذلك اليوم عضواً أساسيًّا في أقوى تحالف عسكري في العالم المعاصر, ولعب الموقع الاستراتيجي الحسّاس لتركيا دوراً هاماً بإبراز حاجة الناتو لتركيا بوصفها ساحة التقاء الشرق والغرب، إلى جانب أنها الدولة المسلمة الوحيدة في صفوف الأطلسي، ما يجعلها بمثابة “الجسر الذي يصل بين الناتو والعالم الإسلامي”، كما صرح الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن.

على مدار عدة عقود شهدت العلاقة بين أنقرة والناتو العديد من المفاصل منها ما شكل انسجاماً كبيراً بمواقف الطرفين, ومنها ما وصل لمرحلة التباين بالمواقف وحدة الخلاف وأظهرت شروخاً بمواقف الطرفين, فالخلاف حول ملف قبرص (1963_1964) شكل حالة نفور كبيرة بين تركيا والناتو الذي دعم الموقف اليوناني على حساب أنقرة, مما دفع الساسة الأتراك بعدها لاتباع سياسة تتسم بالاستقلالية النسبية حيال بعض الملفات كما فعلت باعتراضها على الحرب الأميركية في فيتنام (1955-1975) وكذلك في الصراع العربي الإسرائيلي.

لكن الأمور زادت سوءاً بعلاقة أنقرة بالناتو بعد حادثتين فارقتين, الأولى عندما أسقطت تركيا طائرة روسية فوق أراضيها (23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015), وتخلي الغرب والناتو عن تركيا, وكشف سماءها بعد سحب منظومات الدفاع الجوي الباتريوت من أراضيها بدل دعمها ومساندتها وفق مفهوم أنقرة, والحادثة الثانية التي أججت الخلاف مع حلف الناتو هي حادثة الانقلاب الفاشل في تركيا عام 2016 الذي نُسب لفتح الله غولن المتواري في الولايات المتحدة الأميركية, حيث اعتبرت تركيا أن دولاً غربية كانت مساهمة بالانقلاب, خاصة مع هروب بعد الضباط الأتراك المشاركين بالانقلاب لبعض دول الناتو ورفض إعادتهم للمحاكمة في تركيا, وضعف الدفاع الجوي في تركيا بعد سحب المنظومات الغربية والشروط التعجيزية التي فرضتها واشنطن على أنقرة بصفقات باتريوت وغيرها (كما تقول أنقرة), دفع بصاحب القرار العسكري والسياسي التركي للتوجه شرقاً بحثاً عن تموضع جديد, فتلقفت موسكو اللحظة ومنحت تركيا منظومة إس_400 دفاع جوي التي أغضبت واشنطن, واعتبرت وجود تلك المنظومة على أراضي الناتو مخلةً بأمن الحلف, وستشكل خرقاً خطيراً لأمن الطائرات الأميركية والغربية تستفيد منه موسكو (رغم وجود تلك المنظومة ومنظومات دفاع جوي روسية أخرى على أراضي اليونان وثلاث دول أخرى على الأقل في حلف الناتو).

وأوقفت واشنطن مشاركة تركيا بمشروع تجميع مصنعي طائرات إف35, وأتبعتها بتجميد صفقة بيعها لتركيا, إضافة لعقوبات عسكرية واقتصادية طالت بعض المؤسسات التركية.

مؤخراً عاد الموقف للتأزم بين أنقرة والتحالف الدولي والناتو, إن كان عبر امتعاض تركيا من موقف التحالف شرقي الفرات, بما “يخص وجود حزب العمال الكردستاني“، المصنف على أنه “منظمة إرهابية” من قبل تركيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

لكن تركيا تنظر لوحدات حماية الشعب الكردية على أنها امتداد لحزب العمال الكردستاني، بينما على الأرض تمثل تلك القوات الشريك الرئيس للتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في شمال شرقي سوريا، وهي غير مصنفة كمنظمة إرهابية من قبل أي دولة في العالم باستثناء تركيا.

وقيل بمرحلة من المراحل أن هناك محاولات تركية لنقل تنظيم هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) من إدلب لمواضع تماس مع حدود شرقي الفرات حيث تتواجد “قسد”.

لكن الولايات المتحدة الأميركية حذرت من تلك الخطوة ونبهت لخطورتها, اليوم ومع الغزوة التي قادها أبو محمد الجولاني عبر تنظيمه هيئة تحرير الشام عبر بمساعدة قتالية ولوجيستية من فصائل محسوبة على الجيش الوطني والجبهة الوطنية للتحرير ضد منطقة غصن الزيتون, وبعد دخول أرتاله لمدينة عفرين ومحيطها بعد تسهيلات عسكرية قدمت من فصائل أيضاً محسوبة على الجيش الوطني, مع اصطحابه لأكثر من ألف من الأمنيين والإداريين والسجانين وحتى عمال نظافة يترأسهم خمسة من أمراء غير سوريين يتبعون للجولاني, تلك الغزوة التي حركت الحاضنة الشعبية وبعض الفصائل للوقوف بوجهها باعتبارها خطورة ستعصف بكامل شمالي سوريا وأرياف حلب الشمالية والشرقية, وأيضاً تلك التغيرات حركت واشنطن التي أصدرت عبر معرفات سفارتها في دمشق تغريدة تهدد وتحذر الجولاني من مغبة تحركه نحو الشمال, وطالبته بسحب أرتاله فوراً من المنطقة.

وقالت السفارة في تغريدة على حسابها في تويتر: “نشعر ببالغ القلق من التوغل الأخير لهيئة تـحرير الشام، وهي منظمة مصنفة كإرهابية، في شمال حلب، يجب سحب قوات هيئة تـحرير الشام من المنطقة على الفور”.

الخارجية الأميركية دخلت على خط الأزمة عبر المتحدث باسمها “فيدانت باتيل” حيث قال في مؤتمر صحفي: “أود القول إن تركيا شريك مهم في المنطقة, وهي عضو في حلف الناتو, لذا فنحن على تواصل معها بشأن عدد من القضايا ولا شك بأننا قلقون من التصعيد الأخير في شمال غربي سوريا وتداعياته على المدنيين”.

لكن ما نُقل عن معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى بأن الولايات المتحدة الأميركية ضغطت على تركيا للتدخل وإيقاف تمدد هيئة تحرير الشام في شمال غربي سوريا وفي عفرين تحديداً, وأن الأميركيين هددوا الأتراك بمغادرة الجولاني عفرين وإلا ستسمح الولايات المتحدة لقوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الكرد بالدخول لمناطق درع الفرات وغصن الزيتون لمواجهة أرتال الجولاني مما أثار غضب الأتراك.

وسواءاً كان التحرك الأميركي ناجم عن رؤية خاصة, أو نتج عن ضغوط مورست من قيادة قوات سوريا الديمقراطية على الجانب الأميركي لما تشكله مدينة عفرين من خصوصية معينة لدى المكون الكردي, فالموقف الأميركي مع الضجيج الإعلامي الذي رافق العملية العسكرية للجولاني, شكل نقطة انعطاف بالأحداث الجارية في معارك الفيلق الثالث ضد هيئة تحرير الشام وحلفائها, وشكل انعطافه أخرى عبر تدخل تركي عبر وزارة الدفاع وصف بالغاضب والحاسم.

وأمرت قيادة الجيش التركي أرتال الجولاني بمغادرة المنطقة مباشرة, ومع أنباء عن تغلغل بعض الخلايا الجولانية بتواطؤ من بعض الفصائل في بعض المفاصل الداخلية في عفرين ومحيطها, حرك الجيش التركي دوريات مشتركة بقيادته, وجال على معظم المناطق في عفرين ومحيطها بحملة تفتيش وتدقيق على الوثائق الشخصية للعناصر وعلى كل القوى الأمنية والعسكرية لضبط عناصر الجولاني وإبعادهم.

مناطق النفوذ التركي بالشمال السوري عبر قياداتها العسكرية والحكومية وحتى السياسية قد تكون موضع مراجعة جديدة للقائمين على الملف السوري في الجانب التركي, فانقسام الجيش الوطني لثلاث شرائح (مع وضد الجولاني وأخرى محايدة), وجمود الحكومة المؤقتة ووزارة الدفاع بالتعاطي مع الأزمة, وتعطل الائتلاف الوطني وعجزه عن إصدار بيان يعبر عن موقفه, نظراً لحدوث اشتباكات سياسية بمواقف أعضاءه, منها ما يدعم المناصرين للجولاني, ومنها ما يدعم الطرف المواجه, مما أدخل الهيئة السياسية في الائتلاف بصراعات كادت تصل لحد الاشتباكات بالأيدي بين ممثلي الفصائل داخل الهيئة السياسية, فآثرت مؤسسة الائتلاف الصمت والعجز عن اتخاذ موقف كما كان يجب.

أمام هذا التردي بالتعاطي مع الأزمة التي تعصف بالشمال السوري والتلاعب بأقدار خمسة ملايين نازح ومهجر ومقيم عبر شلة من الفاسدين والإرهابيين, ومع خطورة بعض الطروحات التي تحدثت مؤخراً عن سيناريو توحيد بين حكومة الإنقاذ التابعة للجولاني والحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف, ومع سيناريو مرافق لتوحيد الجيش الوطني مع هيئة تحرير الشام بإشراف أبو محمد الجولاني, وهي عملية وصفت أنها زواج متعة بين الإرهاب والفساد, وتشكل منعطفاً خطيراً قد يطيح بكل القضية السورية نظراً لإضفاء السواد القاعدي على المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد, مما يخدم بالتأكيد طروحات النظام عبر تدعيم ادعاءه بمحاربة الإرهاب.

اليوم, ومع تعدد مواضع اتخاذ القرار بما يخص الملف السوري لدى الجانب التركي, تبدو واضحة العودة القوية لوزارة الدفاع التركية للإمساك مرة أخرى بخيوط التحكم بالملف العسكري شمالي سوريا قبل انزلاق الأمور لحالات يصعب ضبطها.

لكن ومع تلك المستجدات أصبح من الضرورة بمكان ليس فقط إعادة التقاط خيوط اللعبة, بل يجب إعادة تصحيح المسار عبر اتجاهات عدة, منها تصحيح العلاقة بين مؤسسات الثورة السياسية والعسكرية والمحلية مع الجانب التركي وحصرها وفق الاختصاص.

والأمر الآخر إعادة هيكلة مؤسسات الثورة السياسية والعسكرية والحكومية, لضبط الفلتان العسكري والأمني والاجتماعي والاقتصادي الذي وصل لمرحلة لا تُطاق, وإلا فمنطقة الشمال السوري مؤهلة لصدام كبير داخلي قادم بين فصائل الجيش الوطني, وصدام آخر مع تنظيم الجولاني, وقد تذهب لصدام وخلاف أكبر بين تركيا والتحالف الدولي وبين أنقرة وواشنطن, في وقت تتحضر فيه تركيا لانتخابات حساسة قادمة, لا تملك فيها أنقرة رفاهية الدخول بأوضاع غير مستقرة على حدودها الجنوبية, ولا بتصاعد خلافات خارجية جديدة.