الصين والأزمة الأوكرانية 2014-2022

كان دأب الصين الامتناع عن التصويت في مجلس الأمن الدولي منذ شهر آذار 2014، أمام مشروع قرار يدين ضم شبه جزيرة القرم لروسيا، وحتى اليوم الأخير من شهر أيلول الماضي أمام مشروع قرار يدين ضم روسيا للمناطق الأوكرانية الأربع، ولم تبادر بكين في هذا الصدد إلى مشاركة روسيا في استخدام الفيتو آنذاك، كما فعلت في يوم 4 تشرين الأول 2011 أمام مشروع قرار، مدعوم من واشنطن، يتعلق بالأزمة السورية.

ساعد هذا في ترويج مقولات عن “حياد صيني” في الأزمة الأوكرانية، تبناها حتى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، وحاول الفرنسيون والألمان منذ بداية الحرب الروسية- الأوكرانية في 24 شباط الماضي إغراء الصينيين لدفعهم نحو التوسط لإنهاء الحرب بدعوى موقع الصين “المناسب” للقيام بذلك بحكم “الحياد” زائد العلاقة الجيدة بين الصين وروسيا. وقد دفع مقال نشره السفير الصيني في واشنطن شين كانغ في صحيفة “الواشنطن بوست” (عدد 15 آذار 2022) لتعزيز الاعتقاد بحيادية الصين عندما أشار إلى أن “الصراع بين روسيا وأوكرانيا ليس جيداً للصين” ومشيراً إلى ما يؤرق الصينيين في الفعل الروسي: “يجب احترام سيادة كل الدول ووحدة أراضيها بما فيها أوكرانيا”، حيث أن ضم روسيا لأراضٍ من دولة معترف بحدودها دولياً بالتعاون مع انفصاليين محليين، سواء عبر غزو عسكري أو عبر استفتاءات تتم بعد الغزو، لا يناسب الصين التي تعاني من حركات انفصالية في منطقة التبت وفي إقليم سينكيانغ (تركستان الصينية) حيث يسكن المسلمون الإيغور في الشمال الغربي من الصين، كما أن سابقة الغزو الروسي لأوكرانيا قد دفعت الرئيس الأميركي جو بايدن إلى إطلاق التصريح التالي في 23 أيار الماضي ومن طوكيو: “هناك حاجة إلى جعل روسيا تدفع ثمناً مرتفعاً لغزوها أوكرانيا ليس من أجل أوكرانيا بل من أجل إرسال رسالة للصين حول مقدار الثمن لمحاولتها أخذ تايوان بالقوة”، في إيحاءٍ أميركي بأن ما يجري في أوكرانيا للروس سيردع الصينيين عن فعل مماثل في تايوان أو سيعلمهم منذ الآن بالأثمان المرتفعة لذلك الفعل الصيني المرتقب.

ولكن إذا أردنا تفحص الثمانية أشهر الماضية فإننا لا نرى حيادية صينية في الحرب الروسية- الأوكرانية بل اقتراب صيني متزايد من روسيا، وازدياد وتيرة العداء الصيني للأميركان، بالترافق مع تصعيد أميركي ضد الصين بدأ في أيار  الماضي أثناء زيارة بايدن لليابان ومن ثم ازداد هذا العداء مع قمة حلف الأطلسي في مدريد بيوم 29 حزيران التي أشار بيانها الختامي إلى “الشراكة المتعمقة بين الصين وروسيا ومحاولاتهما المتزايدة القوة لزعزعة النظام الدولي ذو القواعد المحددة، تلك الشراكة التي تتجه لمجابهة قيمنا ومصالحنا”، وواضعاً الصين وروسيا في موضع تهديف أطلسي واحد.

بل إذا أراد المرء الدقة، فإن الاقتراب الصيني من الروس قد بدأ بالفعل في أيار 2014 وعلى وقع الأزمة الأوكرانية في القرم، التي عكرت الأجواء بين واشنطن وموسكو ولكن من دون الأوروبيين وخاصة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي حافظت على العلاقات الجيدة مع بوتين رغم القرم، حيث قامت بكين وموسكو بالتوقيع في ذلك الشهر على عقد لإنشاء (أنبوب غاز سيبريا) للصين والذي بدأ الضخ في كانون الأول 2019، كما أن مستوردات الصين من النفط والفحم (وهو مازال مصدر طاقة رئيسي في الصين) قد زادت في عام 2015 لتصل إلى 30 مليار دولار و29 مليار دولار على التوالي بعد أن كانت في عام 2008 بحدود 8 مليار و10 مليار.

في هذا الصدد، يلفت النظر التوقيع على عقد جديد على وقع الحرب الروسية- الأوكرانية، التي هي فعلياً حرب بين روسيا وحلف الأطلسي- الناتو ولكن بالوكالة الأكرانية، لإنشاء (أنبوب غاز سيبريا 2) في أيلول الماضي والذي سيبدأ تشييده في 2024، وإذا حسبنا طاقة الأنبوبين الروسيين للصين، أي 38 مليار متر مكعب بالعام من خط 2014 و50 مليار متر مكعب من خط 2022، فإن هذا سيجعل الصين في التصاق حاجوي اقتصادي بروسيا إذا حسبنا أن حاجتها لاستيراد الغاز قد بلغت 142 مليار متر مكعب بعام 2021، مع العلم أن هناك تفكير صيني- روسي بأنابيب غاز وأنابيب نفط إضافية تأتي من روسيا للصين، تستغني من خلالها الصين عن الاستيراد عبر سفن الغاز المسال والتي هي الآن أكبر مستورد بالعالم له، وتتفادى من خلالها الصين مرور مستورداتها من الطاقة عبر مضيق مالاقا الذي يربط المحيطين الهندي والهادئ والذي توجد به قاعدة عسكرية أميركية في سنغافورة لو أرادت استيراد النفط من الخليج أو من أفريقيا وتؤمن مصدراً للطاقة يستطيع أن يكون مأموناً من سيطرة الأميركان على امداداته وقريباً من الناحية الجغرافية.

بالمقابل هناك حاجة عند موسكو، لتصريف الغاز والنفط الروسيين، إلى مستهلك عملاق مثل الصين لتعويض ما هو حتمي بعد الحرب الروسية- الأوكرانية وهو تصفير الغرب الأوروبي لاعتماده على مستوردات الطاقة الروسية من النفط والغاز وبحثه عن بدائل على الأرجح ستكون أساساً في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أو عبر الأخير كمعبر للغاز النيجيري، وحاجة روسية إلى حليف استراتيجي قوي مثل الصين في وقت هناك إعلان عن مجابهة أميركية شاملة مع روسيا في عالم ما بعد 24 شباط 2022، شبيهة بمجابهة الحرب الباردة 1947-1989، فيما الصين لا تحتاج روسيا في الاقتصاد فقط بل وفي السياسة والعسكرة، وذلك كله في زمن لم يأخذ بايدن بنصيحة هنري كيسنجر في أيار الماضي بإرضاء بوتين في أوكرانيا مقابل التركيز على العدو الرئيسي الذي هناك إجماع الآن في واشنطن أنه الصين ووسط شعور صيني عبرت عنه يومية “الشعب” الرسمية الصينية في 30 آذار الماضي عن أن “واشنطن تستعمل أوكرانيا كمخلب لاحتواء روسيا والصين”، وهو ما يعبر عن شعور في بكين  بأن هزيمة روسيا ستقود إلى تطويق الصين من الشمال، وبالترافق مع تفكيك روسيا كما جرى للاتحاد السوفياتي، بعد أن جرى تطويق الصين من الجنوب والشرق والغرب، وهي لم يبق صديق حدودي لها هناك، بعد إسقاط حكومة عمران خان في باكستان بآذار الماضي، سوى كوريا الشمالية والعسكر في ميانمار.

هنا، من مظاهر تعزيز العلاقات، مناورات جوية مشتركة صينية- روسية جرت في أيار الماضي قرب المجال الجوي الياباني وفي آب مناورات بحرية مشتركة في منطقة المحيط الهادئ قبالة مرفأ فلاديفوستوك الروسي. رغم هذا فإن وزير الدفاع الصيني وين فينغ تحدث في 13 حزيران الماضي عن “أن الصين وروسيا ليستا في تحالف بل في شراكة”. وأيضاً هناك تبني صيني للرواية الروسية عن الحرب مثل حديث الأمين العام للحزب الشيوعي شي شن بينغ في 23 حزيران عن أن “توسيع الأحلاف العسكرية وسياسات الهيمنة قد قادت إلى الأزمة الأوكرانية”.

كتكثيف: يبدو أن الصين تنظر للحرب الروسية – الأوكرانية، التي هي حرب روسية مع حلف الأطلسي- الناتو بالوكالة الأوكرانية، من منظار أساسي هو منظار المجابهة الأميركية مع الصين الذي يردد وزير الخارجية الصيني وانغ يي كثيراً ومنذ عام2020 بأنها ناتجة عن “سيادة ذهنية الحرب الباردة في واشنطن”. وهي تتجه نتيجة لذلك نحو بناء حلف صيني- روسي له أرجل اقتصادية قوية زائد الشراكة في العداء المشترك بين بكين وموسكو ضد (الغرب)، الذي يستعمله كمصطلح بوتين ولافروف والقادة الصينيون كثيراً في الفترة الأخيرة، وهم يستعملوه ليس كمصطلح جغرافي بل كمصطلح يدل على مكان يحوي مضاداً أيديولوجياً لهما. والصينيون في هذا المجال يضعون هواجسهم جانباً من أن تقود عمليات بوتين لضم أراضِ أوكرانية إلى تقويض “احترام وحدة وسيادة الدول المعترف بها دولياً على أراضيها” كأحد المبادئ التي يقوم عليها النظام الدولي الذي قامت على أساسه منظمة الأمم المتحدة في عام 1945.