في معرض تعليقه على مقتل جينا أميني (مهسا)، أشار السيناريست والمخرج السينمائيّ الكردي “الإيرانيّ” بهمن قبادي؛ إلى حيث ينبغي التفكير في الأسباب العميقة التي أسهمت في اندلاع الاحتجاجات، إذ تتمثّل رؤية “قبادي” في أن حادثة القتل هي تجميع لأسباب ثلاثة معاً، فالضحية : فتاة – كردية – من أسرة فقيرة.
هذا التكثيف يفيدنا في تفسير الحالة المريرة التي يعيشها المجتمع الإيراني منذ العام 1979؛ فـــ”أميني” التي قُتلت وهي تزور للمرّة الأولى طهران؛ ما كانت لتُقتل لو أنها كانت تستقل سيارة فارهة شبيهة بتلك التي يملكها الأثرياء المقرّبون من النظام الإيراني بعكس سيارة ذويها المتواضعة، وهي إن لم تكن امرأة انحسر حجابها القسريّ عن رأسها لم تكن لتقتل، ثم أن أصولها الكردية كان السبب الإضافي في جعلها الضحية المثالية “لشرطة الأخلاق”.
تمثّل ثلاثية قمع الأقليات: القومية والدينية، والنساء، وتفاقم معدّلات الفقر؛ الأسباب غير المباشرة للاحتجاجات التي عمّت مدن إيران، فيما كان لمأساة جينا أميني تأثيره المباشر الأشبه “بتأثير الفراشة” على اللحظة التي فجّرت كل الغضب والدعوات للتخلّص من وطأة النظام الثيوقراطي الرجعي.
وقد يكون من الجيد في معرض الحديث عن المرأة الإيرانية، التركيز على مسألة الحجاب الذي بات نزعه يمثّل ذروة الاعتراض على النظام، فقد احتل الحجاب خلال قرابة قرن من الزمان المساحة الأوسع في دائرة التنافس بين القِوى التحديثية/التغريبيّة من جهة، وبين القوى المحافظة والرجعية من جهة أخرى.
تاريخياً تأثّر الشاه رضا بهلوي، بالمنحى الأتاتوركي الشكلانيّ في التحديث، الأمر الذي ألهمه في ثلاثينيات القرن الماضي إصدار قوانين الثياب الموحّدة للرجال، ومن ثم إصدار قانون “كشف الحجاب” وهو ما اصطحب ردود أفعال من القِوى المحافظة والدينية، وبالمثل كان لفرض الحجاب بعد قليل من نجاح روح الله الخميني؛ في ثورته الإسلامية؛ دوره المجابه للحريات الفرديّة، ومع فرض هذا الإسلام المشهديّ، غدا الحجاب القسريّ علم الجمهوريّة الإسلامية الثاني ورمز هيمنتها على نصف المجتمع، وبذا أمست مسألة نزع النسوة حجابهن في لحظات ما؛ نزعاً لعلم الجمهورية، أما التكثيف الأشدّ لمطالبات احترام المرأة الإيرانية استقرّ على هتاف “المرأة، حياة، حرية “، وهو في الأصل شعار الجماعات النسوية الكردستانية.
إلى ذلك تمثّل طبيعة النظام الثيوقراطيّ والقوميّ سبباً آخر لتنامي حركة الاحتجاجات؛ فالنظام بوصفه فارسيّ الهوية الثقافية وشيعيّ العقيدة، فإنه ما فتئ يواظب على فشله في حلّ المسألة القومية المزمنة، وتالياً عدم قدرته على إعادة رسم ملامح الهوية الإيرانية الوطنية بعيداً عن “كاتالوغ” الوليّ الفقيه، هذا الفشل المعطوف على قمع الهويات الإثنية؛ يفسّر مسارعة الإثنيات غير الفارسية للاحتجاج، لاسيما في كردستان التي تحفل بماضٍ دمويّ وقمع دوريّ،فضلاً عن جاهزيتها العليا للانتفاض والتمرّد، واحتكامه على نواة حركة تحرر وطني مستدامة ومتماسكة، وقد تكون رغبة النظام الإيراني في استفزاز الأحزاب الكردستانية عبر قصف مقرّاتها في كردستان العراق؛ مؤشّراً على رغبة طهران باستفزاز الحركة الكردية المسلّحة لتحويل مجرى الاحتجاجات السلمية إلى حيث المواجهات المسلّحة، وهو ما سيؤمّن للنظام الإيراني تفوّقاً ومساحة لتحطيم المجتمع الكردستاني وانتفاضته السلميّة، فيما الغالب على الظن أن الأحزاب الكردستانية ستختار سياسة الصبر الاستراتيجي وعدم الانصياع للاستفزازات التي تبلغ ذروتها مع استهداف الأطفال والمدنيين في كردستان العراق.
برز أيضاً إلى سفح الحدث الإيرانيّ؛ تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعيّة، إذ أن تفاقُم معدّلات الفقر يرتبط بسياسات النظام المنزاحة إلى جانب الأثرياء والأولغاريشية المحيطة به على حساب الطبقات الاجتماعية الفقيرة ومتوسطة الدخل، وما زاد في سوء الأوضاع المعيشية جملة عوامل منها: الجفاف غير المسبوق، والعقوبات، وانخفاض قيمة العملة، وارتفاع أسعار الحبوب على وقع الحرب الروسيّة الأوكرانية، فيما يضع جمهور المنتفضين اللوم على تبذير النظام مقدّرات البلاد على سياساته الإمبريالية في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، ويمكن من ذلك تفهُّم الأسباب التي دفعت المحتجين إلى تمزيق صور الجنرال الراحل قاسم سليماني؛ بوصفه رائد مدرسة التدخُّل الإيراني في الدول العربية التي شهدت حروباً أهلية، أو أزمات طائفية حادّة.
وسبق أن شهدت إيران؛ احتجاجات خلال السنوات القليلة الماضية كاحتجاجات “لا للغلاء” عام 2017، والتي تبعتها احتجاجات 2019؛ التي جاءت ردّاً على ارتفاع أسعار الوقود، واحتجاجات الأول من أيار/مايو، الماضي؛ بسبب رفع الدعم عن الخبز، وهو ما يفسّر الشعارات ذات البُعد الاقتصادي للمحتجّين وانضمام العمّال وأصحاب المحلّات التجارية إلى حلقات الإضرابات في هذه الأثناء.
تضافُر الأسباب الثلاثة المتمثّلة: بالتمييز الجندري والقوميّ وتردّي الأوضاع الاقتصادي، لا يعني بحال من الأحوال أن النظام الإيراني شارف على الانهيار، لكن ما يمكن استشرافه طِبقاً لحركات الاحتجاج السابقة؛ هو أن المطالبين بالتغيير يُؤثِرون منطق الصبر الطويل وتجميع النقاط على فكرة توجيه ضربة قاضية، فضلاً عن أن هذه الأخيرة غير متمكّنة بالنظر إلى تماسك النظام وقدرته على الاحتكام للقسوة والعنف ودائماً عبر عضلته القوية “الحرس الثوريّ”، وهو ما يعني في مجمل الأحوال أن الانتفاضة الإيرانية حلقة في سلسلة انتفاضات قد تُفضي إلى إصلاح أو تغيير النظام على المدى الطويل، وربما الطويل جداً.
ثمّة مقياس رمزيّ في اختبار الصبر الطويل الذي يمكن إجماله في أن أُسراً إيرانية تُحيك سجّادة واحدة خلال سنة أو سنتين، لكن في المقابل؛ يوصف النظام الإيرانيّ أيضاً بأنه ماهرٌ في تلك الصنعة، وإن كانت سجادته الخاصّة مُدمّاة غالباً.