“الستيم بانك”.. أُخطبوط الفنون والأدب بين الماضي والمستقبل
شمس الحسيني – نورث برس
أين نحن الآن.. هل نحن في منطقة “زمنية” مجهولة حقاً؟ قد نطرح هذا السؤال، بينما ننتظر الانسحاق بحرب نووية، ننتظر بكل ما أوتينا من خيالات؛ تبدو لوهلة غير منطقية، كيف وهي جائزة الحدوث، نطارد أخبار الوقود؛ النفط والغاز، وكل ما ظنناه دائماً المصدر الوحيد لإنشاء “الحضارة البشرية” أو ما قالوا إنه كذلك، سيختفي هذا أيضاً! نرقب الآلات العسكرية الطاحنة بينما تدمّر المدن والبشر، ونسأل أين نحن، إلى أين سيأخذنا هذا كله؟، قد نجد أجوبة لا نتوقعها وفي مساحة تبدو عادية للبعض، يتوقف ذلك على قراءة ما بين السطور لا أكثر، ربما نجد صورة لما نعيشه في سطور وفنون خلقتها الأنفس قبل سنوات، ولا تزال.
تتغير العصور، المفاهيم، طريقة الحياة وشكلها، مع الحفاظ على اتصال دائم بين المستقبل والماضي، هذا ما يقوله فن “الستيم بانك“، بدءً من الأدب الروائي إلى الفنون البصرية، الرسم والنّحت والسينما؛ كذلك تصميم الأزياء والتي أبرزت جميعها مستقبلاً شديد التطور، والذي قد يكون الآن، أو بعد سنوات، بينما تشغله مصادر الطاقة القديمة مثل الفحم والبخار.
يمزج هذا الفن بين التطوُّر التكنولوجي والخيال العلمي والأنماط التي كانت سائدة في العصر الفيكتوري بإنكلترا، وعصر “الحرب الأهلية” في الولايات المتحدة الأميركية، مع إيحاءات للعناصر الميكانيكية في تلك الأزمنة وبشكل خاص التي تعمل بالبخار.
الستيم بانك في الأدب
ظهر مصطلح (ستيم بانك)؛ لأول مرة في عام 1987م، برسالة أرسالها الكاتب الأميركي “كيفن جيتر”، إلى مجلة “Locus Magazine”، حيث استخدم الكلمة لوصف الروايات الخيالية التي كان يكتبها وتدور أحداثها في العصر الفيكتوري.
ومن الروايات التي اتّبعت هذا النمط “ليلة مورلوك“، و”الآلات الجهنمية” لكيفن جيتر، و”هومنكلس” لجيمس بلايلوك، و”بوابات آنوبيس” لتيم باورز.
نما هذا النمط الأدبي فيما بعد، بإعطاء الخيال مساحات أكبر للعبث في التاريخ البعيد وتحويله إلى صورة واقعية يتجسّد فيها المستقبل المتطوِّر بما يفوق قدرات البشر.
ودخلت ضمنه إيحاءات وتنبؤات بافتقاد العالم للطاقة المُشغِّلة الحديثة للآلات المتطورة، فصنع الكتّاب عالم بأقلامهم؛ يعود إلى البخار والفحم لتشغيل التكنولوجيا المتفوِّقة على العقل البشري، وأضافوا الوحوش والمخلوقات المُرعبة إلى الحروب الطاحنة لمواجهة الأسلحة والمُعدّات القديمة، أو التي لم تُصنع بعد؛ إنها بإيجاز اختراعات المستقبل ذات المظهر الرجعي.
وهو مستقبل لم يعُد بعيداً عن أبصارنا اليوم.. افتقاد الطاقة، والعودة إلى الفحم والمصادر القديمة لتشغيل المصانع وكافة الآلات، هي ملامح القارّة العجوز الجديدة، عقب الحرب الروسية الأوكرانية، التي حصرت مصادر الطاقة في يد روسيا التي لم ترتوِ بقيادة “فلاديمير بوتين” من الدماء السورية، فاتجهت إلى جارتها أوكرانيا محاولة تمزيق أوصالها، وما أن حاولت بعض الدول رفع أصواتها في وجهها أشهرت سلاحها الأقوى، الطاقة.
ليس غريباً على الفنّ أن يتنبّأ بالمستقبل، فهذه إحدى رسائله الكامنة والتي تكتشف مع مرور الزمن؛ كثيراً من الكوارث البشرية تنبّأ بها كُتّاب وفنانون، وإحداها الكارثة النووية المنتظرة على يد القاتل ذاته المذكور سابقاً، تلك التي ستمحو العالم ليبدأ من جديد بما يتبقّى من عقول ونوابغ بشرية، وهي إحدى المسائل التي طرحها أيضاً فن الستيم بانك، في عالمه الجديد.
إنه عالم بديل يستقي أفكاره من الحلم والتطوُّر اللامحدودَين، إلا أن ملامحه مُستقاة من الموروثات الثقافية والفكرية.
ورغم ارتباطه القطعي بالعصر الفيكتوري، إلا أن إنتاجه لم يكن محدّداً جغرافياً، حيث اتّخذه فنانون من كافة أنحاء العالم، ليخلق كل منهم عالمه الخاص بأساليب متعددة غنية بالعناصر المتناقضة.
يرتدي الأشخاص في تلك الروايات الملابس المعروفة من العصر الفيكتوري، لكنهم يستخدمون السيارات والآلات المتطورة، مع ملاحظة أنها تعمل بواسطة عجلات التروس والبخار.
قدّم الكاتبان “ويليام جيبسون“، و”بروس ستيرلينغ“، رواية “آلة الفروق“؛ تبعاً لطريقة الستيم بانك في عام 1990م، وتدور أحداث الرواية في العصر الفيكتوري، حيث يُصمّم “تشارلز باباج“، آلة تحليلية تعمل بالبخار ما يجعل ثورة تكنولوجيا الحاسب الآلي؛ تحدُث قبل قرن من زمنها الفعلي، ويُظهر الكاتب تأثير هذا الاختراع على ذلك العصر.
الستيم بانك في تصميم الأزياء
لأن هذا النوع لا يمكن أن يكون نمطياً وتقليدياً بأيّ شكل؛ رغم ارتباطه بأكثر الحقب النمطية بتاريخ إنكلترا، لا يلتزم مصمّمو الأزياء بقواعد معينة في الستيم بانك، بل يتركون مساحة شاسعة للفنتازيا وطُرق اللامتوقّع من الأشكال والمظاهر.
ويستخدم المصمّمون بكثرة، النحاس الذي كان شائعاً في تلك الحقبة مع إضافة اللمسات والألوان والزخارف التي توحي باختراقهم لعالم الغد البعيد.
ومن أشهر مصمّمي الأزياء بطريقة الستيم بانك، البريطاني “ألكسندر ماكوين“، والذي أظهرت عروضه النمط الفيكتوري؛ مع حالة من التمرُّد، مُظهراً الملائكة والشياطين وميثولوجيا تلك العصور بخرافاتها وحكاياتها الشعبية.
وكذلك “كريستيان ديور“، الذي قدّم في عام 2010، مجموعة كاملة من أزياء الستيم بانك؛ التي وُصفت بالجريئة حيث حوّل العارضات إلى ما يشبه الدُمى المتحركة مع فساتين مستوحاة من العصر الفيكتوري بإضافات متطورة.
والمصمم الياباني “كو”، الذي يعمل على إعادة إحياء الفساتين الفيكتورية بلمسات العصور المظلمة المرعبة من الحروب الأهلية، وكذلك أجنحة الملائكة والأقمار واكتشافات الفضاء، كلها معاً في مظهر مدهش.

الستيم بانك في السينما
من اليابان أيضاً، المخرج “هاياو ميازاكي“، قدّم فيلم “قلعة هاول المتحركة“، عام 2004، حيث يمتزج السحر بالآلات الميكانيكية والحيّة، وعمل “ميازاكي” على إبراز صراع مُحتدم بين السحر والمركبات الطائرة في عالم موازٍ لا يشبه تصوُّرنا اليوم للمستقبل.
أما السينما الفرنسية، فقدمت فيلم الأنيميشن “آبريل والعالم الغرائبي“، عام 2015م، وتدور أحداث الفيلم حول توقُّف تطوّر الحضارة عند زمن استخدام الفحم والآلات البخارية، ما يؤدي لتلاشي الغابات وتلوُّث الهواء ضمن حبكة درامية قائمة على دعائم الفن المُستحدث.
في الرسم والنحت
اتّخذ فنانوّ الستيم بانك؛ عناصر العصور القديمة كجزء من لوحاتهم ورسائلهم المستقبلية، فأضافوا إليها آلات المختبرات القديمة، وأجزاء من الآلات البخارية، والتروس، والمعادن، والساعات، وأفكار عدّة من العصر الفيكتوري.
ومثّلت اللوحات والمنحوتات؛ استحضاراً للرومانسية والوحشية المرعبة في آن، بصور تحملك إلى المستقبل مع تجسيد الارتباط الوثيق بالماضي.
من بين روّاد فن الستيم بانك، في الرسم الفنانة الإسبانية “ريميديوس فارو“، على الرغم من وفاتها قبل عشر سنوات من ظهور مصطلح ستيم بانك، إلا أنها اعتُبرت من المُبدعين في هذا الفن، فقد جمعت في أعمالها السريالية عناصر من الأزياء الفيكتورية، والخيال، والتكنو الخيالي.
في الستيم بانك؛ يصنع الفنان على اختلاف اختصاصه ذاكرة المستقبل، هناك يبدو العالم الحديث مختلفاً تماماً، لم تحلّ الكهرباء محل الآلات البخارية، لم يظهر البلاستيك أبداً، لا يزال الناس يرتدون ملابس فاخرة (مخالفة للملابس العملية الرائجة اليوم)، يستخدمون المعادن في كل شيء؛ الكؤوس والأدوات المنزلية، الساعات، الأبواب، الآلات البدائية، يحملون عقائد وأفكار ثورية في عصور رجعية.
ستيم بانك في التصميم والحِرف اليدوية
يتمثّل الجانب الرئيسي لستيم بانك، في التصميم؛ بالتوازن بين الشكل والوظيفة، مما يجعله مرتبطاً في بعض النواحي بالحركة الفنية للحرف اليدوية في أواخر القرن التاسع عشر.
بالإضافة إلى ابتكار الفن والتصاميم الفريدة، يقوم عشاق الستيم بانك؛ بتعديل الأشياء النفعية الحديثة مثل لوحات مفاتيح الكمبيوتر، والقيثارات الكهربائية؛ باسلوب فيكتوري تقليدي، ويصنع هؤلاء الحِرفيون أشياء فريدة (دون أن تفقد وظائفها)، باستخدام النحاس والحديد والخشب والجلد.
إذا كان هذا شكل الفن المستحدث الذي يُعيد تخيّل عالم حيث القوة البخارية هي الأحدث في التكنولوجيا، ويمكن استخدامها لتشغيل المناطيد وبنادق الأشعة؛ كل ذلك مع الحفاظ على الجمالية الفيكتورية، فهو مُلتصق بعالمنا الحالي بشكل لا يقبل الانفصال، ومن المؤسف أن هذا الفن لم يدخل العالم العربي سوى بمبادرات خجولة جداً غير واضحة المعالم.