دمشق – نورث برس
يعاني سكّان دمشق وقاطنوها ومحبّوها من شيءٍ ما في الزمن يصعب وصفه، ثمّة اختلال بين الماضي والحاضر والمستقبل، إنّ الفجوة الزمنيّة الموجودة بين الأجيال تمتدّ أيضاً إلى تصوّر هذه الأجيال عن المدينة ومعايشتهم لها وإحساسهم تجاهها، حتى إلى قلّة أو كثرة الكتب عنها. لقد أقرّ معظم من كَتب عن دمشق؛ أنها تنفرد بعبقٍ ثقافيّ وتاريخيّ لا نجده في أية مدينة أخرى، ووجد فيها الباحثون الغربيون “الشرق الأسطوري”، ولا يمكن حصر مَن كتب عنها، فمنذ يوميّات البديري الحلاق، فيها “حوادث دمشق اليومية”، كُتِب عنها آلاف الكتب، مثل كتاب علي الطنطاوي، “صور من جمالها وعِبر من نضالها”، أو كتاب محمد كُرد علي “دمشق مدينة السحر والشعر”، إلى كتاب يوسف اليوسف “دمشق التي عايشتها”؛ كلّ تلك الكتب تقدّم لنا صورة مشرقة عن مدينة أجمع الناس على حبّها، إلا أنّ اليوم، ثمّة فجوة زمنيّة، وهُويّة جديدة غريبة لهذه المدينة.
التي كانت
تتمثل تلك الفجوة في أنّ قاطني المدينة، كانوا منذ عدة سنوات يعيشون في الحاضر، ومنسجمين مع الماضي، ومرتاحين لإمكانات المستقبل، لكن هذه الأزمنة الثالثة تمزّقت أمام آخر جيل أو جيلين، وحتى أمام الأجيال التي عايشت دمشق في ذروتها، حيث أصبح الماضي متفكّكاً، والحاضر متبعثراً، والمستقبل غائباً.
وبات من الصعب الإشارة إلى المدينة، سواء من قِبَل أجيالها القديمة أو الجديدة، والقول: هذه هي… فقد تشوّهت أمام أعين القدماء، ووجدها الجيل الجديد مشوّهة، لكنه سمع أو عرف وقرأ أنها لم تكن كذلك من قبل. لذا، باتت الإشارة إلى دمشق اليوم تتمّ عبر طريق السلب لا الإيجاب؛ هذا ما لا يجب أن تكون عليه، هذا الذي “لا يجب أن يكون”؛ شكّل هُويّة المدينة منذ عدّة سنوات، وفي الآن نفسه منح هذه الهُويّة لسكّانها.
لقد غلّفت “الكارثة”؛ أو شيءٌ ما يشبه الكارثة، هذه المدينة منذ سنوات، وصار يُشار إليها على أنها “دمشق التي كانت”، أما حاضرها فشيءٌ آخر، وكثير ممّن عرفوها “كما كانت” ما زالوا يعيشون في ماضيها، ويتغنّون به، محاولين قدر الإمكان أن ينكروا حاضرها، وألّا يعترفوا به رغم أنه واقع.
يعترفون بدمشق؛ التي كانت تستقبل فيروز على المسرح عام ١٩٥٢، باسمها الأصلي نهاد حدّاد، والتي زارها العالمي الشهير شارلي شابلن عام ١٩٢٩، لحضور افتتاح واحد من أفلامه، والتي تأسّست فيها أول مدرسة “باليه”؛ في منزل الوجيه مظفر البكري عام ١٩٥١، والتي دخلتها الكهرباء في شباط ١٩٠٧، إلى جامع بني أمية الكبير، قبل أن تدخل إلى ولاية لوس أنجلوس الأميركية، والتي سارت أول سيارة في شوارعها عام ١٩٠٥، والتي “كانت” أول مدينة عربية يتأسّس بها برلمان وتُفتتح فيها جامعة، وأول مدينة تستخدم “الترام” في مواصلاتها.
الذاكرة قوتٌ للعيش
إنهم يتذكّرون دمشق؛ التي نالت لقب عاصمة الأناقة في العالم، في الخمسينيات من القرن الماضي، وزيارة ثيودور روزفلت إليها، الرئيس السادس والعشرون للولايات المتحدة الأميركية، ليتعرف على مدن العالم القديم، وزيارة الأديب الشهير مارك توين، الذي كتب عنها بعد أن زارها عام ١٨٦٧: “لن تجد واقعة مسجّلة جرت في العالم إلا وبلغ دمشق خبرُها، عُدْ بالذاكرة إلى الماضي الغامض إنّ استطعت، وستجد دمشق حاضرة على الدوام، السنون في ناظر دمشق محض هنيهات، والعقود مجرّد لمحات زمن متطايرة، إنها لا تقيس الزمن بالأيام والشهور والسنين، بل بالإمبراطوريات التي شهدتها تقوم وتزدهر وتندثر إلى خراب، وعشرات غيرهم ممّن زاروا دمشق وكتبوا عنها”.
يتمّ تذكّر كلّ ذلك؛ لنكران الكارثة التي شكّلت المدينة اليوم، والفقر والجوع والحرمان الذي ألمّ بها، حتى يمكن القول إنّ هذا الأمر أصبح شبيهاً بمعادلة جاهزة لمواجهة الحاضر بالماضي، فأمام الجوع نتذكّر شهادة أوردها محمد كرد علي في كتابه “دمشق مدينة السحر والشعر”، فذكر: “قيل لإسحق بن يحيى الختلي _ مِن ولاة دمشق ٢٣٥ﻫ : لِمَ سكنت دمشق وفلحت أرضها وأكثرت فيها الغرسات من أصناف الفاكهة، وأجريت المياه إلى الضياع وغيرها؟ قال: لا يطيق نزولها إلا الملوك، وقيل له: كيف ذلك؟ قال: ما ظنكم ببلدة يأكل فيها الأطفال ما يأكله في غيرها الكبار؟”.
وأمام الخراب نتذكر كلمات رئيس ماليزيا، وصانع نهضتها مهاتير محمد؛ حين زار المدينة عام ١٩٥٢: “لأجعلن من ماليزيا نسخة من سوريا”، وأمام العطش نتذكّر كلمات ياقوت الحموي: “ومن خصائص دمشق التي لم أرَ في بلد آخر مثلها، كثرةُ الأنهار بها وجريان الماء في قنواتها، فقلَّ أن تمر بحائط إلا والماء يخرج منه في أنبوب، إلى حوض يشرب منه ويستقي الوارد والصادر، وما رأيت بها مسجداً ولا مدرسة ولا خانقاهًا إلا والماء يجري في بركة في صحن هذا المكان، والمساكن بها عزيزة لكثرة أهلها والساكنين بها وضيق بقعتها، ولها ربض دون السور محيط بأكثر البلد يكون في مقدار البلد نفسه”.
حتى أمام حالتها الثقافية المترديّة، يُذكر ما قاله الشعراء في وصفها، مثل أحمد شوقي أو البحتري، أو تعود الذاكرة إلى دمشق عاصمة الثقافة العربية في العقد الأول من الألفية الثالثة:
“أما دمشق فقد أبدت محاسنها – وقد وفى لك مطريها بما وعدا
إذا أردتَ ملأت العين من بلدٍ – مستحسنٍ وزمانٍ يشبه البَلدا
يمسي السحاب على أجبالها فرقاً – ويصبح النبت في صحرائها بددا
فلست تبصر إلا واكفاً خضلاً – أو يانعاً خضراً أو طائراً غردا
كأنما القيظ ولّى بعد جيئته – أو الربيع دنا من بعد ما بَعَدا”.
وتنتهي المعادلة أمام الاغتراب والهرب منه، بتذكّر ما يجيء في كتاب تراجم الأعيان من أبناء الزمان، أنّ العلماء ألقوا عصا تِرحالهم واستوطنوها ليموتوا فيها بهدوء.
الزمن الذائب
رغم كلّ ذلك، لا يمكن للذاكرة أن تداوي طويلاً، ولا يمكنها أن تقف وحيدة في وجه الكارثة التي شكّلت هُويةً لدمشق اليوم، وحوّلتها من حاضنة إلى طاردة، فالذاكرة خيبة أمل، وهي تزيد الفجوة اتّساعاً، حتى أنّ الأجيال القديمة لم تعُد تتغنّى بذاكرتها، بل استسلمت لما هو واقع، أي “لما لا يجب أن يكون”، والأجيال الجديدة ليس لها ذاكرة شهدت ما كان، لذا وجدت نفسها في “ما لا يجب أن يكون”، لقد تمّ قبول دمشق “الكارثة”، تمّ قبولها هُويّةً للمدينة ولقاطنيها ومحبّيها، ولم تعد الذاكرة تستطيع أن تكون ترياقاً أمام كلّ هذه السموم، وصار زمن المدينة مائعاً، ذائباً، لا نعيش في الحاضر، ولسنا منسجمين مع الماضي، ولا مرتاحين لإمكانات المستقبل، بل: أصبح الماضي متفكّكاً، والحاضر متبعثراً، والمستقبل غائباً.
الثقافة الغائبة.. دمشق لأهل الهامش
يجد الروائي السوري سومر شحادة، بأنَّ دمشق بالنسبة إلى أهل الهامش، لا تعدو كونها مكاناً للتجنيد الإجباري، والتقديم على الوظائف العامة والنوم تحت جسر الرئيس، أتحدّث عن السواد الأعظم من زوّارها، ولا أخالُ أنّ السنوات الماضية قد غيّرتها باعتبارها وجهة الهامش للتجنيد في المعارك، والوظائف التي لا تسدُّ الرمق، لربما فقط ازدادت هذه الصورة وطأةً لكن وظيفيّاً؛ وبالنسبة إلى الهامش؛ دمشق لم تتغيّر، فقط ازدادت قسوةً، ازدادت نأياً عن الهامش، وترفّعاً عليه، أمّا على الصعيد الثقافي العام، كذلك ما يحدث خارج المتن، ليس له وجود، حتّى لو حقّق حضوراً في عواصم عربيّة، دمشق لا ترى إلا ساكنيها. وهذا أمر مرتبط بالسلطة، وبدورها ضمن هذه الآلة، بطبيعة الحال، وليس مرتبطاً بها كمدينة. لربما في سياق مقابل، الشام حلوة، لكن ليس بوصفها متناً، وإنّما بوصفها إحدى حواضر الهامش، حيث جميعنا أناسٌ منسيون في بلدٍ منسي ينتمي إلى الماضي.
العمل الثقافي في دمشق
يقول الروائي السوري أحمد السح، إن العمل الثقافي اليوم بالمُجمل؛ يحدث دون أي ديناميكية واضحة، وحين نقول غياب للديناميكية أي غياب لرجع الصدى المادي والمعنوي، وهي حالة انكماش ثقافي، في ظل غياب للمؤسسات الثقافية الخاصة والعامة، وإن حاولنا تفهُّم الموقف؛ أنّ هذا يحدث أثناء الحروب والانكسارات الاقتصادية؛ ولكن عادة في ظروف كهذه، تنشأ تجمعات ثقافية تحمل صوت الناس وتتّجه إليهم وتنتظر الزمن؛ إلى أن تتحول هذه التجمعات بحد ذاتها إلى مؤسسات. ولكن الحالة في سوريا اليوم غير موجودة، فهي مبادرات فردية ذات نطاق ضيق، على قدر تشعُّب علاقات الفرد لا أكثر ولا أقل، لذا يبقى صدى الثقافة كصوت البطّ وهو الذي نعرف عنه علمياً أنه بلا صدى.. ولأسبابٍ مجهولة.
الذائقة الثقافيَّة
بينما يرى الشاعر السوري مناف زيتون، الذي يعيش خارج سوريا؛ وبغضّ النظر عن الكثافة والكمية والجودة، فإنَّه يعتقد بأن الفارق الأساسي الذي حصل هو إزالة النشاط الثقافي من هامش السياسة إلى مركزها، فأصبحت أي مؤسسة أو مجموعة وأشخاص؛ يقيمون أي نشاط ثقافي؛ محكومين بوسم سياسي حتى قبل الوصول إلى المحتوى أو الرسائل التي يحملها النشاط، وذلك بحسب المنطقة التي يُجرون فيها النشاط والجهة المسيطرة عليها، بل وأحياناً بحسب الجمهور الحاضر الذي لا بدّ لهم في اختياره، وبدلاً من الحالة التي كنتُ أشهدها خلال دراستي الجامعية من 2006 إلى 2011، والتي تمثّلت في رغبة مختلف الأطراف الفنية والثقافية بتقديم نفسها لجمهور له خصائص تميزه على صعيد الذائقة خصوصاً، بغض النظر عن موقفها من السلطة السياسية، وباتت أي شخصية تقوم بمجرد زيارة سوريا ودمشق خصوصاً تواجه عشرات التهم الجاهزة.
لكن بالمقابل هناك جانب إيجابي لمسته شخصياً، وهو أن حالة الأسئلة والمعضلات التي وضعتنا الحرب أمامها، تُضاف إليها الشهية المرتفعة إلى حدٍ ما؛ خارج الحدود للمنتج الفني والأدبي السوري، دفعت بالكثيرين أولاً إلى محاولة التعبير عن أنفسهم بأساليب فنية مختلفة لم تكن حاضرة بهذا الشكل سابقاً، وخصوصاً الكتابة، وثانياً توجّه الكثيرين إلى استهلاك الفنون والآداب والمنتجات الثقافية بشكل عام؛ أكثر مما كان الأمر عليه سابقاً، وللأسف هذا الجانب يتم استنزافه إلى حدّ ما؛ بسبب الهجرة المستمرة لأصحاب الشهادات الجامعية خصوصاً.