ما السرّ وراء تعامل أردوغان اللطيف والمفاجئ مع أعدائه؟

يجب عدم التقليل من شأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على الرغم من سجلِّه الذي اكتسبه بجدارة كرجل قوي لا يرحم، كان لديه دائماً إحساس حادّ، مُتعلّق بالتخلّي عن موقع غير مواتٍ في اللحظة المناسبة، وها هو الآن يُظهر ذلك مجدداً.

خلال معظم العقد الماضي، نصّبت تركيا نفسها كقوة مهيمنة إقليمية، وأنشأت قواعد عسكرية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، واستعرضت عضلاتها في البحر الأبيض المتوسط، ونشرت قوات في ليبيا وسوريا والعراق.

سارت مراجعات أردوغان جنباً إلى جنب، مع خطّته لنشر نفوذ تركيا في الأراضي العثمانية السابقة، وإعادة تشكيل المنطقة حسب المنظور التركي الخاص.

 وشمل ذلك, بالتعاون مع حليفتها قطر, مساعدة الحركات الإسلامية المتشابهة في الفكر على اكتساب القوة في جميع أنحاء المنطقة.

(ان العداء الأيديولوجي لهاتين القوتين, أي تركيا وقطر, مع المَلكيات العربية الأخرى في منطقة الخليج، حدّد منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، امتد ليشمل الصراعات في ليبيا والبحر الأبيض المتوسط وسوريا, بل وجرّ الدول الأوروبية مثل اليونان وفرنسا إلى مناطق الصراع).

كل هذا بدأ بالتغيّر الآن، بدافع من الحرب في أوكرانيا، وإحياء المنافسة بين القوى العُظمى، وتقليص الولايات المتحدة في المنطقة، فبدأت دول الشرق الأوسط بالتوجّه نحو الداخل اتجاه بعضها البعض، وتوطيد أنظمتها والسعي لتقليل التوترات فيما بينها.

 تركيا  ليست استثناء، فخلال العام الماضي، كانت أنقرة تُرسل المبعوثون بهدوء وسرية إلى عواصم إقليمية، وتعرض تطبيع العلاقات مع خصومها السابقين.

أعلنت تركيا وإسرائيل الأسبوع الماضي اعادة تعيين السفراء، بعد أكثر من عقد، من العلاقات المضطّربة.

سافر أردوغان إلى أبو ظبي, في شباط / فبراير، للقاء ولي عهد الإمارات العربية المتحدة، محمد بن زايد آل نهيان، على الرغم من أن وسائل الإعلام التركية، صوّرت محمد بن زايد ، على أنه العدو اللدود لتركيا، وراعي محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016.

 في مارس / آذار، قام المدّعي العام التركي؛ الذي يحقق في مقتل الكاتب الصحفي جمال خاشقجي، في عام 2018، بنقل القضية إلى المملكة العربية السعودية، مما أدى فعلياً إلى إبطال التحقيق، وبالتالي السماح لأردوغان، بزيارة الرياض واحتضان ولي العهد محمد بن سلمان.

 كما أرسلت أنقرة وفوداً إلى  مصر، لإصلاح الأضرار الناجمة عن الدعم التركي لجماعة الإخوان المسلمين، وتورُّطها في الحرب الليبية.

 لأردوغان، أسبابه الشخصية بالطبع, وراء رغبته في تكوين صداقات مع أنظمة كان يأمل في السيطرة عليها ذات يوم, فقبل الانتخابات العامة لعام 2023، بدا الزعيم التركي أكثر عُرضة للخطر من أي وقت مضى. مع وجود معارضة موحدة واقتصاد في حالة ركود، فإن شعبيته آخذة بالانخفاض، خزائن الدولة التركية شبه فارغة، الليرة تتراجع، والتضخُّم قارب الثمانين بالمئة.

على الرغم من حكمه البلاد بقبضة من حديد، فإن فرص أردوغان، في إعادة انتخابه غير مؤكدة، حيث يأمل الرئيس في أن تكوين صداقات مع أعداء سابقين، وخاصة دول الخليج الغنية، سيجلب الأموال التي تشتد الحاجة إليها شيئاً فشيئاً؛ والتي ستُمكِّنه فيما بعد من المُضي قُدماً حتى الانتخابات؛  درءاً لخطر الإفلاس؛ بسبب أزمة ميزان المدفوعات التي تلوح في الأفق.

ربما يكون التحوّل السياسي الأكثر دراماتيكية؛ هو أن أنقرة تُلّمح الآن إلى أنها مستعدة حتى لبدء الحديث مع نظام بشار الأسد في سوريا، بعد سنوات من الضغط من أجل تغيير النظام في دمشق ودعم جماعات المعارضة المسلحة في شمال البلاد.

إصلاح العلاقات مع دمشق ليس له علاقة بمال أو تمويل، إنما الأمر كله يتعلق بإرضاء الناخبين الأتراك الغاضبين من وجود ملايين اللاجئين السوريين في بلادهم، فلطالما دعت المعارضة التركية، إلى تطبيع العلاقات مع سوريا، مما يشير إلى أن هذا من شأنه أن يؤدي إلى العودة الطوعية للاجئين إلى بلادهم.

 والآن، يقفز أردوغان، على ظهر ذلك المركب، ويتّخذ خطوات لتشجيع إعادة ملايين السوريين، الذين فرّوا من النظام إلى وطنهم.

في الواقع، من غير المُرجّح أن تحدث مثل هذه العودة، لقد أظهر نظام الأسد، أنه غير قادر على الإصلاح أو ضمان ظروف العودة الآمنة مع وجود 4 ملايين سوري مناهض للنظام داخل تركيا، وما زال الملايين على حدودها، لا تستطيع أنقرة فرض تسوية بين المعارضة والنظام، ناهيك عن إعادة السوريين إلى مستقبل غير مؤكد، لكن الوعد بالعودة إلى الوطن على عكس الواقع، هو الذي يهُمّ قبل الانتخابات، حيث يأمل أردوغان في أن أيّ حديث عن صفقة مع دمشق، يمكن أن يزيل الانتقادات واسعة النطاق لسياسته تجاه سوريا.

بدأت مناورة أردوغان، لخفض التصعيد على الصعيد الإقليمي تؤتي ثمارها مالياً، حيث تُظهر احتياطيات البنك المركزي التركي، زيادة غير محدودة بأكثر من 17 مليار دولار منذ بداية العام. وتتكهّن الأسواق بأن هذه الأموال روسية وخليجية إلى حدّ كبير, وأن المزيد سيأتي، في حين أن حلفاء الناتو ليسوا سعداء بقرار أنقرة تجاوز العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، وتوفير شريان حياة لنظام فلاديمير بوتين، فقد التزموا الصمت بشأن رفضهم إلى حدٍّ كبير.

يُعتبر موقع تركيا الاستراتيجي على البحر الأسود، أمراً حاسماً فيما يتعلق بدفاع أوكرانيا عن نفسها، وآخِر ما يريده الغرب هو استعداء أردوغان ودفعه أكثر نحو الكرملين.

إن هجوم أردوغان، الدبلوماسي الساحر، ذكي من الناحية التكتيكية؛ لكنه لا يُغيّر حقيقة أنه مدفوع بإدراكه لموقفه الداخلي السيئ، على الرغم من حُكم تركيا الاستبدادي، إلا أن النظام الانتخابي لا يزال قادراً على المنافسة، الناخبون غير راضين عن التضخُّم المتفشّي، وسوء الإدارة الاقتصادية الفوضوية واتجاه البلاد بشكل عام.

 قد يساعد حقن النقد الأجنبي؛ في تفادي وقوع كارثة اقتصادية، لكن في النهاية، لا يستطيع بوتين والأسد ومحمد بن سلمان؛ تحديد نتيجة الانتخابات التركية، لكن الناخبين الأتراك، يستطيعون بلا شك فعل ذلك.

وإلى هذه اللحظة، يبدو أن هؤلاء الناخبون، غير مقتنعين بقدرة أردوغان على تحقيق غدٍ أفضل.


المقال كتبته الصحفية التركية آسلي آيدنتاشباش في صحيفة آلميندرون الإسبانية وترجمته نورث برس