صور هزيمة المشروع التركيّ إذ تتضح

عام 2011، كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على متن الطائرة الرئاسية حين توجّه إليه صحفيّ بسؤال عن السياسة الواجب اتباعها في سوريا، خاصّةً وأن أردوغان كان يخاطب قبل ذاك الرئيس السوري بـ”أخي”، ليجيب الرئيس أن لتركيا الكثير في سوريا، ومن جملة ما لها “حلب والقامشلي”، في إشارة إلى طبيعة التطلّعات التركية في سوريا، وعليه فقد اختار أردوغان الوقوف في مواجهة الأسد، أمّا يوم السبت الماضي، وعلى متن طائرته الرئاسية أيضاً، صرّح أردوغان للصحفيين عن أن أهداف تركيا ليس من بينها إلحاق الهزيمة بالنظام السوري.

ويمكن أن تُلهمنا تلك التصريحات المتناقضة، التي تُتّخذ على متن الطائرة الرئاسية، فكرة مفادها أن المشكلة ليست في الرئيس، إنما في الطائرة الرئاسية، إذ باتت أقرب لحمام أرخميدس، حيث يصرخ الرئيس على متنها مراراً: وجدتُّها!

وأيّاً يكن من أمر تلك التصريحات، سواءً الداعية إلى القطع مع النظام السوري وإسقاطه، أو تلك المغايرة التي تدعو إلى الحوار “غير المشروط” معه، فإننا إزاء مجموعة مسائل تصلح أن تكون صوراً لهزيمة المشروع التركي، ولعلّ أولى هذه المسائل تكمن في أن تلطيف مفردة “الهزيمة”، وتسميتها “استدارة” أو “انعطافة”؛ إنما تُقلّل من قدرتنا على التحليل وتفكيك الخطاب الرسميّ التركي، ويُدخلنا تالياً في دوّامة الالتباسات والتعمية وتشويه الحقائق، وقد سبق في تراث المنطقة وأدبياتها السياسية؛ أن تحوّلت الهزيمة إلى “نكسة”، والانقلاب إلى “ثورة”، والآن تُقدّم الهزيمة على أنها استدارة، أو تكتيكاً لا يفهم منه سوى الراسخين في العلم.

 أما المسألة الثانية فهي أن الحكومة التركية في سعيها إلى الحوار مع دمشق، إنما تتبرّم من وعودها السابقة فيما يخصّ إعادة اللاجئين، إذ سبق للرئيس أن وعد الأغلبية التركية الغاضبة بإعادة مليون لاجئ إلى الداخل السوري قبل نهاية العام، وقد كان وعداً حمل معاني الأمر الواقع، وبالقوّة حيث الإعادة ستحصل دون الرجوع للروس ودمشق.

فيما تتمثّل المسألة الثالثة في استحالة تنفيذ عملية عسكرية خامسة تستهدف قوات سوريا الديمقراطية، رغم الإيحاءات الروسية بإمكانية التعاون في مسار مكافحة “الإرهاب”، وقد يكون المقصود بالإرهاب؛ تبعاً لموسكو، هو كل الفصائل التي تتبع أنقرة.

والحال أن المسائل كلها تقودنا إلى الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه تركيا حين غلّبت الإيديولوجيا على السياسة، وهو الذي أوقعها تالياً في شرك موسكو؛ فقد رفع النظام التركي مهمّة الإجهاز على تطلّعات كُرد سوريا، وقوّتهم الناشئة غير المهدِّدة للأمن القومي التركي أساساً، إلى مرتبة المهمّة المقدّسة، لتتوالى الخطب التي تحدّثت عن رفض أنقرة إقامة “ممرّ إرهابي”، جنوب حدودها، وأنها لن تسمح بتكرار “الخطأ” الذي وقعت فيه في “شمال العراق”، بل إن حدود التدليس بلغت مداها مع تصريحات الرئيس التركي، التي تحدّثت عن أن التدخُّل إنما جاء للحؤول دون قيام كيان انفصاليّ في سوريا، في حين أن التدخُّل التركي جاء لإسقاط نظام دمشق، وقبل أن يُعلن كُرد سوريا عن إقامة الإدارة الذاتية.

ثمة إلى ذلك تناسب عكسيّ يُعزّز من إمكانية هزيمة المشروع التركيّ، إذ كلّما اقتربنا من موعد الانتخابات التركية الحاسمة، زادت تنازلات تركيا لروسيا والنظام السوري، وكلما تنازل الأتراك زاد اتهامهم للولايات المتحدة وأوروبا؛ برعاية “الإرهاب”، إن  تبريراً لسياسة التحالف مع موسكو، أو تبريراً لصعوبة الإجهاز على قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، غير أن التنازلات التركية يبدو أنّها لا تروق للروس والنظام، ذلك أن الأخير وضع جملة شروط من بينها الانسحاب الكامل من الأراضي السورية، ووقف دعم الفصائل المسلحة، وهو ما يعني أن دعوة أنقرة إلى حوار غير مشروط ذهبت أدراج الرياح، فدمشق وموسكو تُدركان حاجة أنقرة لهما، وكيف أن هذه الحاجة تتضاعف مع مرور الوقت.

صورة أخرى للهزيمة تجلّت في طبيعة التعليقات والتحليلات (التبريرات) التركية المؤيدة لخطط أردوغان السورية الأخيرة، بعض تلك التبريرات يذهب إلى رغبة أردوغان؛ بالتخلّص من العبء السوريّ لأجل التفرّغ لمواجهة اليونان، تبريرات أخرى ترى في دعم واشنطن لكُرد سوريا؛ سبباً لالتصاق أردوغان بالروس، وازدياد التبريرات وتشعُّبها يعني في مكانٍ ما؛ أن الإقرار بهزيمة المشروع التركي في سوريا غدا مسألة وقت، لكن الإقرار قد يستغرق وقتاً أطول حال تَغلُّب أردوغان على منافسيه في الانتخابات المقبلة.

ولعل الصورة الأشد سطوعاً للهزيمة التركية غير المعلنة؛ بات يتمثّل في رغبة أنقرة بالتحالف مع نظام دمشق الذي كانت تسعى لإسقاطه، وكل ذلك لأجل إلحاق الهزيمة بقسد والإجهاز على الإدارة الذاتية، أو بمعنى أضيق، لأجل أن يُحدِّث الحزب الحاكم جمهوره عن إنجاز حققه على الأراضي السورية قبل موعد انتخابات منتصف العام المقبل.