كالفن ويلدر
بعد شهرين من إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عزمه شنّ هجوم جديد في شمالي سوريا، لا تزال خطوط الجبهة الأمامية في البلاد ثابتة.
على الرغم من جهود أردوغان، المتجدّدة في أواخر حزيران / يونيو، لضمان مباركة إيران وروسيا للعملية، لا تزال القوى الخارجية موحَّدة في معارضتها لأي تغييرات في الخطوط الأمامية لسوريا.
تم الآن وضع خطة أنقرة الأصلية, و التي كانت تنصّ على هجوم كبير؛ كان من شأنه أن يضع جميع الأراضي السورية على بعد 30 كيلومتراً من الحدود التركية تحت سيطرة أنقرة أو وكلائها, على الرّف مقابل حملة مُكثّفة من ضربات الطائرات بدون طيّار والقصف المدفعي ضد العسكر و أهداف مدنية.
مع تركيز الكرملين والبيت الأبيض اهتمامهما على أوكرانيا، من الممكن أن يُحدّد أردوغان، فرصة لشنّ هجوم جديد بغضّ النظر عن معارضتهما، وستكون هذه الهجمات مُقدِّمة لعملية عسكرية كبيرة وليست بديلاً عنها.
ولكن مع هجوم جديد أو بدونه، فقد أدى الضغط التركي إلى تغييرات خفية في ميزان القِوى في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، مع عدم رغبة الولايات المتحدة في تقديم دعم عسكري مباشر ضد تركيا، تحوّلت قيادة قوات سوريا الديمقراطية إلى شركاء آخرين لدعم مواقفها على طول الخطوط الأمامية.
لقد وسّعت الحكومة السورية وحلفاؤها بهدوء، وجودهم العسكري شرقي الفرات في الشهرين الماضيين، مما وضع قوات سوريا الديمقراطية في تعاون عسكري وثيق متزايد، ليس فقط مع دمشق ولكن أيضاً مع حلفائها الروس والإيرانيين.
إن التعاون المتزايد لقوات سوريا الديمقراطية مع النظام وحلفائه للدفاع عن أراضيها، له تداعيات زلزالية محتملة على شمال شرقي سوريا، بالنظر إلى هدف دمشق الطويل الأمد المُتمثّل في إجبار القوات الأمريكية وقوات التحالف على الخروج من سوريا، وإعادة المنطقة إلى السيطرة الكاملة للحكومة المركزية.
لكن على الرغم من التعاون الجديد في المجال العسكري، لا تزال الحكومة السورية، والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا؛ الهيئة المدنية التي تدير الأراضي التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، على خلاف حول صفقة سياسية من شأنها أن تعيد المنطقة إلى سيطرة دمشق.
قصف تركي لأراضي قوات سوريا الديمقراطية
كانت أبرز الضربات التركية سواء بالمدفعية أو بالطائرات بدون طيار هو هجوم 22 تموز/ يوليو، الفائت، الذي أسفر عن فقدان ثلاثة أعضاء بارزين في قوات سوريا الديمقراطية لحياتهم، بمن فيهم نائبة القائد العام سلوى يوسف، وأثار هذا الهجوم بياناً نادراً من نوعه من جانب الولايات المتحدة، أعربت فيه عن “تعازيها” لخسارة تلك القائدة، لكنها امتنعت عن تسمية الجاني أو انتقاد الهجوم نفسه.
لم يكن هذا الهجوم هو الهجوم الوحيد, حيث أسفرت غارة تركية بطائرة مُسيّرة في 21 تموز/ يوليو، الفائت، عن خسارة مقاتلين اثنين من قوات سوريا الديمقراطية لحياتهما بالقرب من كوباني، وحصدت غارة أُخرى في الثامن والعشرين من الشهر ذاته، أرواح أربعة من عناصر قوى الأمن الداخلي للإدارة الذاتية، وهجوم آخر بطائرة مُسيّرة في الرابع من آب / أغسطس، الفائت، أسفر عن خسارة عضو في مجلس تل تمر العسكري, التابع لقوات سوريا الديمقراطية, لحياته.
بين 20 تموز/ يوليو، و 2 آب / أغسطس ، أفاد مجلس سوريا الديمقراطية، الجناح السياسي لقوات سوريا الديمقراطية، وأعلى هيئة مدنية في الإدارة الذاتية، بأن ضربات تركيا ووكلائها؛ أدت لفقدان تسعة من مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية لحياتهم، أربعة من قوى الأمن الداخلي وثلاثة عشر مدنياً.
على الرغم من أن الهدف الواضح لهذه الحملة هو إضعاف قدرات قوات سوريا الديمقراطية، التي تعتمد عليها الولايات المتحدة، لمواصلة قتال التحالف الدولي ضد “داعش”، في شمال شرقي سوريا، إلا أن الصمت كان العنوان الأبرز للردّ الامريكي, فقد أكد مسؤولون رفيعو المستوى معارضتهم لهجوم تركي جديد، لكنهم امتنعوا بشكلٍ عام عن التعليق على الهجمات ضد الأراضي التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية.
يعتقد بعض المُحلّلين، أن الولايات المتحدة قد تدعم هذه الضربات بصمت، معتبرة إياها بديلاً عن غزوٍ قد يُرضي تركيا؛ بصرف النظر عن بيان القيادة المركزية الأمريكية بشأن “يوسف”، وبيان صحفي آخر عن غارة بطائرة بدون طيار، أسفرت عن مقتل أربعة مدنيين في الثامن عشر من آب/ أغسطس، فإن تكثيف تركيا لهجماتها الأخيرة ضد قوات سوريا الديمقراطية لم يُقابل بأية تصريحات علنية من قبل المسؤولين الأمريكيين.
لم تسفر أياً من الهجمات، بما في ذلك الهجوم على يوسف، عن أية انتقادات علنيّة أو اعتراف بدور تركيا في الهجمات، والمثال على ذلك؛ كان تجنُّب المُتحدِّث باسم وزارة الخارجية سؤالاً مباشراً حول هذه الهجمات في أواخر تموز/يوليو.
بحث قوات سوريا الديمقراطية عن حلفاء جُدد
ودفع رد فعل واشنطن الصامت على هذه الهجمات؛ قوات سوريا الديمقراطية إلى البحث عن شركاء آخرين لدعمها ضد الضغط التركي.
قال مظلوم عبدي، القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، لأول مرة في حزيران / يونيو، إن قوات سوريا الديمقراطية ستُعزز التنسيق العسكري مع الحكومة السورية لإحباط الأهداف التركية في المنطقة.
وقد بدأت هذه القوات بتطبيق هذا البيان، مما سمح للحكومة السورية بنقل ما لا يقل عن 500 عنصر إلى شمال شرقي سوريا، وفقاً لمجلس سوريا الديمقراطي.
منذ حزيران / يونيو، أرسلت الحكومة السورية قوات لتعزيز منبج، وكوباني، وتل رفعت، وكلها تخضع اسمياً لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، أو إحدى الجماعات المُسلّحة التابعة لها، ووصف مجلس سوريا الديمقراطية هذه التحرُّكات بأنها رمزية إلى حدٍّ كبير، فهي تُرضي تركيا من خلال السماح لقوات سوريا الديمقراطية، بسحب قواتها من نقاط تفتيش معينة دون التنازل عن الأراضي لتركيا أو للحكومة.
ومع ذلك، فقد شنّت تركيا غارات جوية على مواقع تسيطر عليها قوات من الحكومة السورية بالقرب من كوباني، في السادس عشر من آب، مما أسفر عن مقتل العديد من أفراد القوات الحكومية.
جاءت الضربات رداً على هجمات سابقة زعمت تركيا أن قوات سوريا الديمقراطية قد نفّذتها مستهدفة القوات التركية في شمال شرقي سوريا، وهي إشارة واضحة على أن تركيا لا تميز بين القوات المتحالفة مع الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية، والقوات المنضوية تحت لوائها عندما تعمل هذه القوى على طول خط المواجهة نفسه.
علاوةً على ذلك، فإن القوات الحكومية ليست هي الوحيدة التي وسعت وجودها في المناطق شمال شرقي سوريا، ففي الشهرين الماضيين، ورد أن روسيا قامت أيضاً بتوسيع وجودها في مطار القامشلي، في قلب أراضي قوات سوريا الديمقراطية، مضيفة أنظمة دفاع جوي، وطائرات مقاتلة وطائرات هليكوبتر هجومية إلى قاعدتها هناك. على الرغم من أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها الإبلاغ عن قيام روسيا بنشر دفاعات جوية من طراز Pantsir S-1 أو طائرات مقاتلة من طراز Su-35 في تلك القاعدة، فإن عمليات الانتشار في الشهر الماضي تضمّنت جلسات تصوير ومقاطع فيديو دورية، مصممة على ما يبدو للرفع من اسمهم والإشارة إلى الالتزام الروسي بما يتعلق بوجود عسكري قوي في المنطقة.
على الرغم من أن قوات سوريا الديمقراطية لم تُرحب علناً بهذه التحرُّكات، إلا أنها تتزامن مع طلب مظلوم عبدي، لأنظمة دفاع جوي خارجية، ومن المُرجّح أن تعمل القوات كرادع إضافي ضد اجتياح تركي متجدد.
عقبات أمام صفقة الإدارة الذاتية مع الحكومة السورية
على الرغم من تعاونهما الأخير، لا تزال احتمالية التوصُّل إلى تسوية سياسية طوعية بين الإدارة الذاتية والحكومة السورية بعيداً؛ حيث تستمر دمشق في الإصرار على العودة إلى الهيكل السياسي الذي كان قائماً قبل الحرب، مع توطيد كل السلطة تقريباً في أيدي الحكومة المركزية ، لكن الإدارة الذاتية على استعدادٍ فقط لقبول صفقة تُفسح المجال لهيكل حكم فيدرالي، مع منح الحكم الذاتي للمناطق الخاضعة لسيطرتها.
و من غير المعروف إلى ما ستؤول إليه الأمور، لكن ما لا يختلف عليه اثنان هو أن الحكومة السورية تُعارض تفويض السلطة خارج دائرتها الضيقة, ولم يتم إحراز أي تقدُّم نحو التوصُّل إلى اتفاق على الرغم من المفاوضات الطويلة بين الجانبين.
ووفقاً لقيادة مجلس سوريا الديمقراطي في واشنطن، فإن المجلس يعتبر هذه المفاوضات السياسية قضية منفصلة عن التعاون العسكري.
قد يعقُد الجناح العسكري لقوات سوريا الديموقراطية، صفقات مع الحكومة السورية؛ للسماح لقواتها بالدخول إلى المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، لكن هذا لا يعني أنهم مهتمون بتسوية سياسية أوسع، بشروط موضوعة من قبل الحكومة السورية نفسها.
الخيارات السياسية
مع تصعيد الضغط التركي، ستواصل الإدارة الذاتية الاعتماد بشكل متزايد على الحكومة السورية وحلفائها لتلبية احتياجاتها الأمنية.
وهذا بدوره يمنح دمشق نفوذاً أكبر على الإدارة الذاتية، مما قد يترك للحكومة السورية قدرة أكبر للضغط على الأخيرة لتقديم تنازلات سياسية غير مرغوبة من قِبَلها، قد يساعد الكرملين في أجندة الحكومة السورية أيضاً، فروسيا ما برحت تدعم باستمرار جهودها لتوطيد سيطرتها على البلد بأكمله، وعلى الأخص أثناء هجوم القوات الحكومية عام 2021، ضد جماعات المعارضة المسلحة في درعا، حيث كانت روسيا ظاهرياً وسيطاً محايداً، ولكنها كانت في واقع الحال عنصراً ضاغطاً على الجماعات المناوئة للحكومة كي تذعن لمطالب دمشق.
لا يمكن للولايات المتحدة عكس هذه التوجُّهات من تلقاء نفسها، ولكن هناك بعض الخطوات التي يمكن أن تتخذها لجعل الإدارة الذاتية أقل اعتماداً على الحكومة السورية.
تجنّبت واشنطن حتى الآن التفكير علناً في الضربات التركية ضد قوات سوريا الديمقراطية، والمدنيين في شمال شرقي سوريا. إن التركيز العام على الحاجة إلى وقف التصعيد والحل الدبلوماسي من شأنه أن يرفع التكاليف الدبلوماسية لهذه الضربات وقد يردع تركيا عن تصعيد الصراع أكثر.
علاوةً على ذلك، نظراً لأن قوات سوريا الديمقراطية أصبحت مستعدة بشكل متزايد للردّ، والمطالبة في حقها بالردّ على القوات التركية، فإن الضغط الأمريكي على قوات سوريا الديمقراطية يمكن أن يساعد أيضاً في كسر التوجّه الأخير للتصعيد على طول الخطوط الأمامية.
يجب أن تكون الأولوية القصوى لواشنطن إقناع أنقرة؛ بأن هذا الضغط يأتي بنتائج عكسية لمصالحها الخاصة. فشلت الغزوات السابقة في تفتيت قوات سوريا الديمقراطية، ناهيك عن تدميرها، وليس هناك ما يضمن أنها حملة ناجحة لإجبار المقاتلين على الانسحاب 30 كيلومتراً عن الحدود التركية.
سنوات من الضغط لم تنجح في تدمير تلك القوات المقاتلة، لكنهم نجحوا في جعله أكثر اعتماداً على الحكومة السورية وحلفائها، عند نقطة معينة، قد يجعل الوجود الروسي الموسّع، إضافة الى وجود القوات الحكومية شرق الفرات, الوجود الأمريكي هناك غير مقبول، وستضطّر قوات سوريا الديمقراطية، إلى عقد صفقة أكثر شمولاً مع الحكومة، سواءً رغبت بذلك أم لم ترغب.
بدلاً من هزيمة قوات سوريا الديمقراطية، من المُرجّح أن تُجبر سياسة تركيا الحالية، المجموعة على الانخراط في خندق الحكومة السورية، وفي هذه المرحلة، لن تكون الولايات المتحدة قادرة على فحص استخدام المجموعة للمواد التي يُزوّدها الغرب، أو فرض شروط وقف إطلاق النار، أو التوسُّط بفعالية في حالة التوترات المستقبلية بين قوات سوريا الديمقراطية وتركيا.
ستُترك تركيا مع نفس مجموعة المشاكل المفروض حلها، ولكن مع وسائل لا عنفيّة أقل هذه المرة.
تم بالفعل فحص المساعدة الأمنية الأمريكية لقوات سوريا الديمقراطية بشكلٍ صارم، لكن واشنطن يمكن أن تعمل مع أنقرة لتطوير إجراءات أكثر قوة مع تذكير تركيا بأن هذه الرقابة ستُفقد إذا اضطرت الولايات المتحدة إلى الانسحاب من المنطقة.
ما لم يتم إقناع أنقرة بأن استراتيجيتها الخاصة لإضعاف قوات سوريا الديمقراطية ليست في مصلحتها الفُضلى، فمن المُرجّح أن تستمر التوجُّهات الحالية، مع تحوّل قوات سوريا الديمقراطية تدريجياً نحو الحكومة السورية حتى وإن كانت فكرة التسوية السياسية الرسمية طرحاً بعيد الأمد.