المخفر التركي

كانت علاقة الجمهورية التركية، بعد إنشائها في 29 تشرين الأول 1923، عدائية مع الجوار، بداية من العراق وسوريا بالجنوب، إلى قبرص بعد استقلالها عام 1960، إلى اليونان وبلغاريا في البلقان، وصولاً إلى الاتحاد السوفياتي الذي كانت تركيا هي القاعدة الجنوبية الشرقية لحلف الأطلسي – الناتو ضده منذ عام 1952،ثم دول الجوار السوفياتي السابق في القفقاس بعد تفكك الاتحاد السوفياتي مثل أرمينيا ذات الماضي الجريح مع الأتراك، وإن كانت جيورجيا هي الاستثناء حيث دخلت في علاقات طبيعية مع تركية منذ الحرب الروسية- الجيورجية عام 2008،فيما كانت روسيا المشاطئة مع تركية عبر البحر الأسود والمضائق في البوسفور والدردنيل ذات علاقات مضطربة مع تركية حتى عام 2016 عندما بدأ تحالف له أمواج تعلوا وتنزل بين بوتين وأردوغان، وهو ما ينطبق أخيراً على العلاقات التركية- الإيرانية التي لا يمكن وصفها بالمستقرة لافي عهد آل بهلوي 1925-1979، أي الشاه رضا وابنه الشاه محمد رضا، ولا في عهدي الخميني والخامنئي، مادامت أنقرة وطهران ذات أجندات متصادمة في العراق المأزوم 2003-2022 وفي الأزمة السورية 2011-2022، وإن تلاقت تركيا وإيران بالخمسينيات في فترة حلف بغداد 1955-1958 ضد مصر جمال عبدالناصر.

يمكن هنا تشبيه الجمهورية التركية بالمخفر الموجود في محيط معادي، وتأتي قيمته بالنسبة للقوى الدولية من أدواره ضد المحيط أو بعض هذا المحيط، وإن كان هذا المخفر قد بدأت عملياً وظيفته بالثلاثينيات لما خافت فرنسا وبريطانية مع تجمع غيوم الحرب العالمية الثانية مع ألمانية الهتلرية من أن يكرر مصطفى كمال أتاتورك ما فعلته الدولة العثمانية لمّا تحالفت مع برلين في الحرب العالمية الأولى وهذا ما دفع باريس وبتشجيع من لندن على سلخ لواء الاسكندرون وإعطائه لتركيا لإسكاتها وإقناعها بالحياد في الحرب العالمية المقبلة. أي أن وظيفة هذا المخفر قد بدأت بدور ابتزازي بين معسكرين دوليين متجابهين. ثم مع انضمام أنقرة للناتو اصطف الأتراك مع واشنطن ضد السوفيات في الحرب الباردة، وقدموا عروضاً بخدمات فرعية ضد مصر الناصرية الصاعدة عبر حلف بغداد (مع عراق نوري السعيد) الذي كان مشروعاً لناتو شرق أوسطي أو فرعاً شرق أوسطي للناتو، ولم يفكر عبدالناصر، الذي كان مدركاً بأن أمن مصر يبدأ من الشمال السوري المحاذي للأناضول وذلك منذ آلاف السنين مع المجابهة الفرعونية – الحثية التي حسمت في معركة قادش قرب حمص، في الوحدة السورية- المصرية إلا بعد الحشود العسكرية التركية على الحدود مع سوريا في خريف عام 1957. أيضاً، تم استخدام هذا المخفر التركي أميركياً من أجل منع القوميين القبارصة اليونان من الحاق جزيرة قبرص بالدولة اليونانية، وذلك لما أعطى هنري كيسنجر الضوء الأخضر لأنقرة بغزو قبرص في تموز 1974 بعد أيام قليلة من انقلاب نفذه القوميون القبارصة اليونان ضد حكم الرئيس القبرصي المطران مكاريوس. ولكن عندما انتهت الحرب الباردة بانتصار الأميركان على السوفيات عام 1989 ثم تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991 بدا وكأن المخفر التركي سيتم إغلاقه بحكم أن وظيفة أنقرة الأساسية في العلاقات الدولية، أي كمخلب للناتو في الخاصرة السوفياتية الجنوبية الشرقية، قد انتهت.

في هذا المجال، تم تقديم ثلاثة إجابات تركية لإعادة تشغيل المخفر التركي، أولها من الرئيس التركي توركوت أوزال لما تحدث قبل قليل من وفاته في عام 1993 عن أن هناك “عالم تركي يمتد من بحر إيجة إلى تركستان الصينية” وهو ما يلاقي النزعة القومية الطورانية التي لم تقبل بالقومية الأتاتوركية التي حصرت القومية التركية في حدود جمهورية عام 1923، وربما لاقى هذا هوى في واشنطن من حيث أن الأتراك في الجمهوريات الإسلامية السوفياتية السابقة (التي هي لغوياً وإثنياً تركية ماعدا طاجكستان التي هي فارسية اللغة والإثنية) يمكن أن يكونوا عامل استقطاب مضاد للامتدادات الروسية والايرانية في تلك الجمهوريات (أي أذربيجان وتركمانستان وكازاكستان وأوزبكستان وقرغيزيا). ثاني تلك الإجابات التركية قدمها رئيس الوزراء التركي نجم الدين أرباكان بعامي 1996 و1997، وهو من اتجاه إسلامي، لما دعا إلى طي صفحة الأتاتوركية التي أرادت تغريب تركيا وجعلها جزءاً من العالم الأوروبي ليس فقط لأن هذا برأي أرباكان ضد الانتماء الحضاري الإسلامي لتركيا وإنما لأن الأوروبيين يعتبرون الاتحاد الأوروبي “نادياً مسيحياً” أيضاً ويغلقون بابه أمام تركيا، وقد دعا أرباكان وحاول توجيه تركيا نحو الجنوب واقترح إقامة رابطة سياسية – اقتصادية مع خط طهران – بغداد- دمشق، والأرجح أن هذا هو السبب الرئيسي الذي دفع واشنطن لتشجيع العسكر العلمانيين الأتاتوركيين على القيام بانقلاب 28 شباط 1997 ضد أرباكان. ثالث الإجابات كان إجابة حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان بعد وصوله للسلطة إثر انتخابات برلمان تشرين الثاني 2002 لما جرى محاولة تقديم “النموذج الاسلامي الأردوغاني” بوصفه نموذجاً “إسلامياً” يمكن استخدامه أميركياً ضد “نموذج ابن لادن” بعد قليل من (11سبتمبر)، وقد رأينا كيف اقتنعت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما بعد “الربيع العربي” في عام 2011 بوصول جماعة الإخوان المسلمين للسلطة في مصر وتونس ومشاركتهم بالسلطة في اليمن وليبيا وكيف كلفت أردوغان بالملف السوري في خريف عام 2011 الذي اتجه نحو تزعيم جماعة الإخوان المسلمين للمعارضة السورية برضا واشنطن عبر “مجلس إسطنبول”، وهو ما جعل الكثيرون يظنون بتلك الأيام أن الأميركان يريدون تحجيم ومواجهة الامتداد الإيراني في العراق عبر حزب الدعوة بزعامة نوري المالكي من خلال إيصال إسلاميين سوريين يتبعون أردوغان للسلطة في دمشق، وهو ما أفشله الانخراط الروسي- الإيراني في الأزمة السورية منذ نهاية عام 2011. هنا، مشى الأميركان مع المشروع الأردوغاني الإسلامي، ثم تخلوا عنه بداية مع التأييد الأميركي لانقلاب الفريق عبد الفتاح السيسي على حكم الإسلاميين المصريين في 3 يوليو 2013، وهو ما جعل أردوغان ضائعاً حتى اقترب من موسكو بعد محاولة انقلاب العسكر الأتراك ضده في 15 تموز 2016، والتي هناك إشارات عديدة على ضلوع أميركي بها، حيث قدم مخفره التركي خدمات للروس في سوريا من خلال دفع المسلحين السوريين المعارضين لإخلاء شرق مدينة حلب والغوطة وحوران مقابل سماح موسكو بالسيطرة العسكرية التركية على خط إعزاز- الباب- جرابلس عام 2016 ومدينة عفرين ومنطقتها عام 2018 ثم خط تل أبيض- رأس العين (سري كانيه) في عام 2019، فيما نجد هذا المخفر التركي يقدم خدمات للأميركان في ليبيا ضد الروس الذين يدعمون قوات اللواء خليفة حفتر ويقدم خدمات لواشنطن ضد موسكو في الصراع الأذربيجاني- الأرمني حول إقليم ناغورني كاراباخ.

يمكن هنا القول بأن مشروع أرباكان كان يتضمن إغلاق المخفر التركي وجعل أنقرة في علاقات طبيعية مع الجوار، فيما مشروعي أوزال وأردوغان هما توظيفان للمخفر التركي ولو باتجاهين مختلفين. هناك مؤشرات أو تسريبات في هذه الأيام على أن أردوغان، وبعد أن لم يعطه الأميركان الضوء الأخضر لاجتياح عسكري لمنطقتي تل رفعت ومنبج، يعرض على الروس خدمة جديدة من المخفر التركي تتمثل في جلب المعارضة السورية المرتبطة والتابعة للأتراك بشقيها العسكري والسياسي من أجل  الجلوس إلى مائدة التفاوض مع الحكومة السورية من أجل حل “ما” للأزمة السورية مقابل قيام موسكو وبالتعاون مع السلطة السورية بتنفيذ ما يريده أردوغان من إرغام  (قوات سوريا الديمقراطية- قسد) على الابتعاد لمسافة 32كيلومتر من الحدود التركية- السورية.