ملاحظات على هامش جمعة “لن نصالح”

سريعاً خمدت الاحتجاجات في مناطق سيطرة تركيا وأعوانها السوريين على إثر تصريح لوزير الخارجية التركية، مولود جاويش أوغلو، والذي تحدث فيه عن ضرورة المصالحة بين المعارضة والنظام، لكن سرعان ما عدَل أوغلو عن تصريحه وأنه إنما تحدّث عن “توافق” وليس “مصالحة” مرفقاً تصويبه بوعيد يطاول أولئك السوريين الغاضبين الذين أحرقوا الأعلام التركية: “سنكسر الأيادي التي تمتد إلى علمنا” وهو تصريح يماثل تصريح إسحق رابين زمن الانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987 “سنكسر أيديهم وأرجلهم لو توجب ذلك”. ولم يطل الأمر حتى عاد الوزير لتكرار كلماته الأولى التي جاءت على المصالحة، مشفوعة بتأييد صادر عن دولت بهجلي، زعيم حزب الحركة القومية والشريك في الحكومة التركية.

وإذا كان تخبّط الوزير يشي باعتلال الحكومة التركية، وتخبّطها في الملف السوري على وجه الخصوص، فإن تخبّطاً من نوع آخر أصاب معارضين سوريين توقفوا عن الكلام خشية أن تعاقبهم أو تزجرهم تركيا، أو عبّروا بطريقة ملتبسة وبكلمات مواربة عن رفضهم لما قاله الوزير التركي، وهو ما يعني أن الشارع المحتج وقف لوحده وانتفض في مواجهة النهج التركي التصالحي الجديد والمنسوج على نول لقاءات سوتشي رفقة روسيا.

قسم آخر من المعارضين برّر الأمر على نحو ينزّ حكمة متهافتة مفادها أن من حقّ تركيا السعي وراء مصالحها، متناسين أنّ هذا الحقّ معطّل فيما يخصّ المسألة السورية، ذلك أن تركيا كانت طرفاً في عملية تدمير سوريا وتفكيك نسيجها الاجتماعي وضرب جماعاتها الأهلية ببعض، والأدهى من ذلك أن المعارضة، لاسيما “الائتلاف”، منحت تركيا تفويض الحديث باسمها في المحافل الدولية ووضع تصوّرات الحل السياسي، حتى باتت الحكومة التركية هي الممثل الشرعي والوحيد للائتلاف ولقسم عريض من المعارضين.

اللحظة الفارقة في الاحتجاجات، التي عمّت ما لا يقل عن ثلاثين نقطة تظاهر، كانت تلك التي تجرّأ فيها محتجون على حرق العلم التركي، لتُلقي الداخلية التركية القبض على شابين سوريين، داخل سوريا طبعاً، ممن زعمت أنهم قاموا بحرق العلم، فالأمر بدا، والحال هذه، أقرب لحصار سوريين وقعوا بين تصريح وزير الخارجية التركي ومعاقبة زميله وزير الداخلية، وبطبيعة الحال لم تستنكر المعارضة الموالية لتركيا تلك الإجراءات، كما لم تستنكر فيما سبق عمليات قتل السوريين الذي حاولوا عبور الحدود أو الذين لقوا حتفهم على يد الفاشيست في المدن والبلدات التركية. وهكذا يغدو قبول المهانة والإذلال والقسوة، وحتى الترحيل أو القتل، ضرباً من ضروب البراغماتية بحسب أولئك المعارضين.

بدا أيضاً أن خوف المحتجّين من الدعوة للمصالحة يكمن في أن تقوم تركيا بتسليم المناطق التي تسيطر عليها لمشيئة النظام، ذلك أن مسار الحل في جنيف، والمسارات الموازية التي ابتدعتها موسكو وأنقرة الرامية إلى خفض التصعيد والتي اضطلعت بها تركيا وكيلاً عن السوريين، ينتهي بها المطاف إلى المصالحة؛ فالغاية المثلى لإنهاء الحروب الأهلية المزمنة، حيث لا غالب ولا مغلوب، هو الوصول إلى مصالحة موضوعية تضمن في الدرجة الأولى وقف إراقة الدماء وعودة الأمن والاستقرار.

وصحيح أن تسمية الجمعة “لن نصالح” تنتمي لفلكلور “الثورة”، ولزمن مضى وانقضى، إلّا أنه ينبغي التمييز بين المصالحة كخيار سياسي عقلانيّ، وبين ما تسعى إليه أنقرة في هذه الأثناء، وهو ما ميّزه المتظاهرون، إذ إن سعي النظام التركي للمصالحة يدخل في حساباته ومصلحته وقد جاء ذلك إثر فوات مشروعه التوسّعي في المنطقة العربية، فالتحالف الذي بدأ يتشكّل بين “الشريكين” بوتين-أردوغان بات يستلزم التخفّيف من الحمل السوري الثقيل، وتدخل في ذلك الحسابات الانتخابية إذ إن إعادة اللاجئين تمرّ دائماً عبر بوابة دمشق؛ فوعود الرئيس التركي بتوطين اللاجئين في المناطق التي تسيطر عليها قواته تبدو صعبة بالنظر إلى شحّ الموارد اللازمة لإعادة توطين ملايين السوريين، فيما غدا الشرط اللازم للإجهاز على الإدارة الذاتية هو التفاهم مع دمشق، إذ لا يبدو أن تقويض هذا المشروع بالوسائل العسكرية أمرٌ ممكن رغم الاعتداءات التركية المتواصلة على شمال شرقي سوريا.  ولأجل ذلك فإن تصريح أوغلو عن مصالحة النظام والمعارضة إنّما يعني تخلّياً عن المعارضة، فيما لا تشفع إلى ذلك الأعلام التركية المعلّقة على صدور وسواعد مقاتلي فصائل المعارضة المسلّحة ولا مظاهر الولاء المبتذلة التي يقدّمها معارضون للدولة التركية.

قد تكثر الملاحظات على ما حصل يوم الجمعة الماضية، من أشكال الكتابة الأشد وضوحاً على الجدران والتي تشير إلى تركيا بوضوح كجهة معادية “للثورة”، إلى طبيعة اللافتات التي رفعها المتظاهرون خاصة تلك التي دعت إلى تسبيق مصالحة قسد على “مصالحة الأسد”، بيد أن كل ما حدث لا يعدو ردّ فعلٍ غير أصيل يفتقر للتنظيم ومحكوم بالاعتباط، فيما الشيء الوحيد الواضح هو أن الخوف من “استدارة” تركية أخيرة هو المحرّك الذي قاد المحتجين للشارع، خاصة وأن ماضي تركيا القريب في الاستدارات كفيل لفهم ما قاله جاويش أوغلو.