غضب شعبي يجتاح الشمال السوري

قد يصبر سكان المخيمات السورية بالشمال السوري عن نقص بطعام أو شراب, ويتغاضوا عن نقص بدواء واستطباب, أو العيش تحت سقف خيمة ممزقة لا تقيهم حر الصيف ولا أمطار وبرد الشتاء, وقد يصبر النازح والمشرد عن بلده (قسراً) أمام ضيق العيش وحرمان أطفاله من التعليم والعيش الكريم, وقد يصبر المشردون في الشمال السوري على التضييق الذي يصل لحد التشبيح أحياناً من قبل سلطات الأمر الواقع من أبناء جلدتهم ممن نصبوا أنفسهم أوصياء على الثورة وتربعوا على صدرها, فكلها تضحيات ارتضتها الحاضنة الشعبية مقابل أهداف ثورتهم التي خرجوا من أجلها, لكن ما لا يصبر عليه كل هؤلاء أن تختزل ثورتهم وكفاحهم وانتفاضتهم ضد أعتى سلطة ديكتاتورية بمصالحة على الطريقة الشعبية, وبتسطيح وتقزيم للقضية السورية, مصالحة تتجاوز كل عذابات وتضحيات 13 مليون نازح ومهجر, وتتناسى مئات آلاف الشهداء والمعتقلين والجرحى على يد من يطالبون الشعب بمصالحتهم.

الانتفاضة الشعبية الضخمة التي عمت الشمال السوري, ورد فيها سكان المخيمات والمهجرون والنازحون وكل القرى والبلدات في المناطق الخارجة عن سيطرة “نظام الأسد” على تصريحات وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو المتعاقبة, في البداية أكد الوزير التركي: “أنَّ بلاده ستقدّم كل أنواع الدعم السياسي إلى دمشق من أجل إخراج الإرهابيين من المنطقة”، ومؤكداً أنّ “بلاده أجرت سابقاً محادثاتٍ مع إيران في هذا الصدد”، متناسياً أن “نظام الأسد” هو رأس الإرهاب, ثم لحقت تصريحات الوزير أوغلو بعد أيام بكشفه عن لقاء جمعه بوزير خارجية “النظام” فيصل المقداد منذ أقل من عام قال عنه: أجريت محادثة قصيرة مع وزير الخارجية السوري في اجتماع دول عدم الانحياز ببلغراد، “وعلينا أن نصالح المعارضة والنظام في سوريا بطريقة ما وإلا فلن يكون هناك سلام دائم”.

مما لا شك فيه أن تحركات ولقاءات وتصريحات أقطاب الحكم بأي بلد في العالم لا تخضع للتشاور مع أحد من خارج دولهم, لأنها قرارات وخطوات سيادية موجهة لخدمة مصالح شعبهم وأهدافه, وهذا ينطبق تماماً على القيادة التركية ووزارة خارجيتها, فليس من حق السوريين أن يتحكموا أو يفرضوا على الأتراك فحوى ومسار خطواتهم وتحالفاتهم, فمن حق تركيا أن تفاوض وتعقد الصفقات السياسية والاقتصادية وغيرها من تفاهمات مع إيران ومع روسيا وغيرها من دول حتى لو كانت تلك الدول (روسيا, إيران) مع كل مرتزقتها أدمت قلوب معظم السوريين وأوغلت بقتلهم ووصلت لمرحلة الإجرام وإرهاب الدولة.

لكن اعتراض حاضنة الثورة وانتفاضتها لم يكن لعدم مشاروتها, بل كان الحديث الذي أدلى به وزير الخارجية وذكره كلمة “مصالحة” التي هزت وجدان السوريين وأهانتهم (قبل أن تعدل وزارة الخارجية التركية البيان وتستبدل كلمة مصالحة بكلمة اتفاق), كلمة (مصالحة) التي أعادت لمخيلات السوريين ذكريات لم تمت بعد وما زالت فصولها تتوالى عن “إجرام نظام الأسد” وإجرام كل أدوات القتل والإرتزاق التي استقدمها الأسد من طهران وموسكو والضاحية الجنوبية وافغانستان والباكستان والعراق (و و و)، لسحق كل من خرج يطالب بالحرية والديموقراطية لضمان بقاء سلطته حتى ولو على جماجم السوريين.

اعتراض حاضنة الثورة كان على شعورهم بوصاية تُفرض على قرارهم السياسي والعسكري, وإيمانهم أنه حتى لو تخلت قيادات سلطات الأمر الواقع التي تتصدر مشهد الثورة السورية حالياً عن استقلالية قرارها فهذا لا يبيح لأحد من خارج حاضنة الثورة التحدث واتخاذ قرارات نيابة عن أولياء الدم وأمهات الشهداء واليتامى.

الاعتراض كان على غياب أي ذكر لقرارات مصيرية صدرت عن هيئات ومجالس أممية, ويطالب بها أهل الثورة والمتمثلة بقرار مجلس الأمن رقم 2254 ومبادئ جنيف1, وأن طرح حل (المصالحات) على غرار ما حصل بالغوطة الشرقية وفي الجنوب السوري على الطريقة الأستانية ووفقاً لنهج روسي إيراني, لم ولن تقبل به حاضنة الثورة.

لكن حتى لا نحمل الجانب التركي كل الكوارث التي آل إليها وضع الثورة بعد 11 عاماً من قيامها, علينا الانتباه أن مسيرة وخطوات بعض المفاصل الهامة بالقيادات السياسية والعسكرية التي رُكبت على جسم الثورة ومنذ أعوام توحي بتلك النهايات, بمعنى أن خطوات وتحركات ونهج معظم قيادة المعارضة السورية وسوء الأداء الذي أنتهجه معظمها كان بمثابة مقدمات من الطبيعي أن تفضي لتلك النهايات.

وعلى سبيل المثال لا الحصر, أليس أعضاء الهيئة السياسية بالائتلاف الوطني من ناقش منذ أشهر قليلة فكرة تشكيل حكومة وحدة وطنية بالتشارك مع “نظام أسد”, وأن مبررهم لطرح النقاش أنها عروض تلقوها من بعض الدول؟؟.

ألم يكن كلام وزير الداخلية بالحكومة المؤقتة العميد محي الدين الهرموش بمثابة صاعقة هزت أرجاء اجتماع رسمي للهيئة العامة للائتلاف، عندما تحدث بكل ثقة وبكل وضوح عن وثائق يمتلكها وتؤكد كما قال عن تواصلات ومخاطبات لأعضاء في الائتلاف الوطني مع استخبارات “نظام الأسد”، ثم طويت صفحة الموضوع عبر تشكيل لجنة مستعجلة خلصت بالقول: “تسرع بالاستنتاج من قبل وزير الداخلية”؟؟.

ألم يصدر الائتلاف الوطني قراراً بتشكيل لجنة انتخابات في الشمال السوري, اعتبرتها الحاضنة الشعبية مقدمة لدخول الانتخابات إلى جانب بشار الأسد وبالتالي بقاءه بالسلطة, فخرجت المظاهرات بالشمال السوري معلنة رفضها, مما أجبر قيادة الائتلاف على تجميد القرار, ثم سحبه لاحقاً من سجلاته وإلغاءه؟؟

أليس كل ما سبق خطوات مصالحة من قيادة محسوبة بشكل من الأشكال على الثورة؟؟ فلم العتب على موقف وتصريحات وزير الخارجية التركي؟؟.

أيضاً برصد ميداني لموقف تلك القيادات من تصريحات الخارجية التركية, مواقفهم التي حاولت بالبداية استغباء الحاضنة الشعبية وتفسير تلك التصريحات على أنها تصب بمصلحة الثورة لكن قصر فهم الحاضنة الشعبية (حسب وجهة نظر تلك القيادات) جعل الحاضنة تفهم هذه التصريحات بشكل مغلوط, رغم أن الجانب التركي شعر بخطأ بالتصريحات فأصدر بياناً يغير فيه بمفردات كلام الوزير, أيضاً يسجل موقف على كل قيادات المعارضة دون استثناء، التي امتنعت قصداً عن إصدار بيانات تحدد فيها موقفها من تلك التصريحات, فأغلقوا هواتفهم وصموا آذانهم, ثم استدركوا الأمر باجتماع بعد ثلاثة أيام لأعضاء الهيئة السياسية للائتلاف وبعض أعضاء الائتلاف من خارج الهيئة انقسموا فيه لطرفين. الأول وبكل صفاقة اعتبر أن مظاهرات الداخل المعترضة على تصريحات الخارجية التركية ما هي إلا مظاهرات جياع ومظاهرات مطلبية, وليست للتعبير عن موقف سياسي باستنساخ مطابق لما كان يقوله “نظام وإعلام الأسد” عن مظاهرات الشوارع السورية عام 2011 عندما جيرها بأن الناس لم تخرج للتظاهر والتعبير عن موقف السياسي بل خرجت (لتشكر الله على نعمة المطر), والطرف الآخر باجتماع الهيئة السياسية للائتلاف كان أكثر مصداقية عندما نبه وأكد أن كل ما يحصل من حراك وغضب شعبي ناجم عن سوء أداء مؤسسات الثورة وأولها مؤسسة الائتلاف الوطني, وعن الهوة العميقة التي باتت تفصل مواقف القيادة السياسية والعسكرية عن أهداف وتطلعات الحاضنة الشعبية.

المظاهرات التي عمت شمال سوريا بشرقه وغربه, أوصلت رسائل مهمة لمن يريد قراءة المشهد بشكل معمق وواضح وصريح, فهي عبّرت عن تمسكها بقرارها السياسي وبوصلتها الثورية, وأكدت أنها ما زالت ماضية بطريقها رغم فداحة إجرام الأسد وحلفاؤه ورغم ضخامة الأثمان التي قٌدمت وستقدم, لقناعة لدى الحاضنة بأن أنصاف الثورات مقتلها, أيضاً المظاهرات عرت معظم من تصدر مشهد الثورة السورية من قيادات خلبية لا تصلح لا للسيف ولا للضيف ولا لغدرات الزمن, وأعادت المظاهرات التأكيد على أن رحم الثورة السورية ما زال خصباً وقادراً على إنجاب وتقديم قيادات وطنية حقيقية يجب اعتمادها بدلاً عن تلك الواجهات, وأن استراتيجية جديدة للثورة يجب صياغتها, استراتيجية تبدأ بإعادة قراءة المشهد السياسي والعسكري, والاستفادة من المتغيرات الإقليمية والدولية, وتعمل على رص صفوف كل الخارجين على “نظام الأسد”, استراتيجية ناضجة تنسج علاقات مصالح لا تبعية مع أصدقاء الشعب السوري دون استثناء وبما يتقاطع مع مصالح الشعب السوري وأهداف ثورته التي خرج من أجلها.