تحدثنا في الجزء الأول من القراءة في الجنوب السوري عن الركيزة الأولى “للنظام السوري” في الجنوب وهي السويداء، ويعتمد في ركيزته الثانية على درعا، حيث أن إرهاصات ما حصل عام 2018 والاتفاق المخفي الذي نسجته روسيا مع الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل والأردن ما زال يتردد صداه حتى الآن, والصفقة التي حصد ثمارها الجميع كان رابحها الأول كلاً من “نظام الأسد” وإيران وحزب الله, وكانت على حساب حرية الشعب السوري, وعلى حساب حاضنة مدينة درعا ومحيطها التي شكلت مهد “الثورة السورية”, وبموجبها خرجت درعا من خرائط الثورة تحت عنوان “اتفاق المصالحة”, بعد أن تخلى الجميع عن أهل درعا وثوارها, وبعد أن استخدم الروس و”نظام الأسد” وإيران كل ما امتلكوه من أدوات قتل ودمار من صواريخ وطائرات ومدفعية ودبابات, شردت مئات آلاف المدنيين نحو الحدود الأردنية التي أُغلقت حتى بوجه الجرحى والمصابين, مما شكل عامل ضغط إضافي دفع بدرعا الثورة للقبول بتلك الاتفاقيات المذلة مع الحفاظ على بعض الخصوصية المتمثلة بعدم دخول “ميليشيات النظام” لداخل البلدات والقرى, والاكتفاء بحواجز خارجية تخضع لسيطرة “النظام”.
اقرأ أيضاً
اتفاق المصالحة مع الداخل قابلته توافقات وتعهدات روسية لكل من إسرائيل والأردن بإبعاد ميليشيات إيران عن الحدود الأردنية وعن حدود فك الاشتباك بالجولان المحتل ما بين 40 و80كم, والأردن أعلن بعدها فتح معبر نصيب الذي يدر عليه مليار دولار سنوياً كمعبر لبضائع لبنانية وسورية تتوجه نحو الخليج.
بالطبع حسابات الحقل لم تتناسب مطلقاً مع حسابات البيدر, فالميليشيات الإيرانية التي خرجت نهاراً من الجنوب بزيها العسكري الإيراني عادت ليلاً بالزي العسكري للفرقة الرابعة التي يقودها اللواء ماهر الأسد (شقيق بشار الأسد) الذي يعمل وفرقته تحت عباءة فيلق (اللاقدس) الإيراني, أما معبر نصيب وبقية المعابر وكامل نقاط الهجانة ونقاط حرس الحدود مع الأردن فقد سيطرت عليها ميليشيات الحرس الثوري الإيراني وميليشيات حزب الله, وبدلاً من إبعاد ميليشيات إيران عن الجولان المحتل وفقاً للتعهدات الروسية لعشرات الكيلومترات, بات الحرس الثوري الإيراني ومواقع حزب الله على مسافة لا تتعدى مئات الأمتار ببعض المواقع كما في بلدة حضر ومحيطها, ومواقع أخرى على مقربة من شريط الأمم المتحدة في الجولان.
يقول المبعوث الأميركي السابق لسوريا جويل ريبورن بلقاء خاص جمعني معه منذ أقل من شهرين: “كان اتفاق الجنوب السوري مع روسيا اتفاقاً كارثياً وقعنا به, والكارثة الأكبر تتمثل بصعوبة إصلاح ما أخطأنا به”.
الجنوب الدرعاوي اليوم يعيش على بركان قابل للانفجار بأي لحظة, وعمليات القنص والخطف والاغتيال تتصدر الأخبار اليومية, وبحسب “مكتب توثيق الشهداء” في المحافظة فإن درعا تشهد بشكل وسطي وفي كل شهر من 30 إلى 60 عملية اغتيال. وإذا ما تم أخذ المتوسط الحسابي لها وقورنت بالأشهر السابقة من اتفاق “التسوية” فقد يزيد عدد القتلى من جميع الفئات عن ألف شخص, وتتنوع الاغتيالات ما بين إطلاق الرصاص المباشر والاستهدافات بالعبوات الناسفة والألغام، بالإضافة إلى اغتيالات تأتي بعد عمليات خطف لعدة أيام, وتقف خلف عمليات الاغتيال جهات ثلاث:
هناك اغتيالات تقوم بها أفرع استخبارات الأسد وميليشيات إيران وحزب الله لكل قياديي الثورة العسكريين والمدنيين, وهؤلاء هم من أُطلق عليهم تسمية “جماعات التسوية” مع “النظام”, لكن “نظام الأسد” وحلفاءه لا يثقون بكل من حمل السلاح بوجههم, ويدركون أن تلك المصالحات لا تعكس واقعهم الفعلي, وأنهم أجبروا على ذلك وبأقرب فرصة سينتفضون مرة أخرى لذلك قتلهم أولى من تركهم.
وهناك اغتيالات معاكسة يقوم بها ثوار درعا وريفها بحق كل من تآمر على الثورة وسلمها وتحالف أو تعامل مع المخابرات “الأسدية” والإيرانية والروسية, فتتم تصفيتهم إضافة لبعض قيادات الأسد التي أوغلت بالدم السوري, ومساء 4 أغسطس/آب كانت عملية اغتيال المدعو سلامة القداح الذي يشغل منصب أمين شعبة حزب البعث في مدينة الحراك نتيجة استهدافه من قبل مجهولين بالرصاص الحي في مدينة الحراك بريف درعا الشرقي.
وهناك جهة ثالثة هم تجار المخدرات والقائمين على حماية تلك التجارة ونشرها وتأمينها, وهم من تبعية “استخبارات الأسد” أو تبعية إيران وحزب الله, حيث تجري بينهم حروب تصفيات وتناحرات, فيتم اغتيال البعض لمنافع ذاتية, أو لتصفية حسابات أخرى في الصراع حول النفوذ والاستفراد بتلك التجارة الموبوءة.
أما القرى والبلدات في محافظة درعا فما زالت تخوض حرب الحرية التي تتمثل بمحاولات دائمة “لاستخبارات وميليشيات الأسد” لإطباق وإكمال السيطرة على المحافظة من خلال نشر قواتهم داخل القرى والبلدات, فتحدث صدامات وصراعات وعمليات خطف وقتل غالباً ما يتدخل الروس لحل تلك الإشكاليات, لكن مؤخراً بات واضحاً ضعف الجانب الروسي بالسيطرة والحزم بعد أن توغلت إيران وميليشياتها وباتت المسيطرة على كامل الجنوب من خلال 33 نقطة عسكرية في درعا, و22 في القنيطرة و12 في السويداء (وفق دراسة لمركز جسور) وازداد الوجود الإيراني بعد الانقضاض على اتفاق 2018 الذي حصل عام 2021.
يبقى اللواء الثامن الذي يقوده أحمد العودة, وهو ذو تبعية عسكرية ومادية لقاعدة حميميم ومن ضمن هيكلية الفيلق الخامس التابع للروس, وهو يشكل عامل توازن بالجنوب, وغالباً ما يكون رغم تبعيته الروسية حامياً للمدنيين في الجنوب ضد تحرشات “ميليشيات إيران ونظام الأسد” وحزب الله, وتصل الأمور أحياناً لمرحلة المواجهة العسكرية بينهم وبين اللواء الثامن.
الخاتمـــــــــــــــة:
بشكل عام تتضح بصورة جلية أن محرك الشغب بالجنوب دائماً ما يكون مصدره ثلاثي “النظام وإيران وحزب الله”, والغاية واضحة بإطباق السيطرة على الجنوب السوري وطي صفته لصالح الأسد للتفرغ لجبهات إدلب وشرقي سوريا, وليلة الخامس من أغسطس/آب وصلت تعزيزات عسكرية ضخمة “لميليشيات الأسد” إلى ملعب درعا البلدي الذي تتخذه قيادة “جيش الأسد” مركزاً لعملياتها العسكرية في محافظة درعا, لكن الواضح أيضاً ورغم عدم التناسب بموازين القوى العسكرية بين ما تمتلكه الآلة العسكرية لثلاثية “النظام وحلفائه” وما بين قدرات المدنيين في درعا والسويداء, فإن نبض الثورة ما زال هو الأقوى وهو الذي يرعب مفاصل النظام بالجنوب, وبالرغم من الضغط الأمني والعسكري الذي تدعمه روسيا بالجنوب السوري, وبرغم التخلي الكامل عن الجنوب من قبل الأطراف التي كانت تشكل دعماً له, ما يزال الجنوب السوري عصياً على سيطرة “نظام الأسد”, وعصياً أن يعود لما كان عليه قبل عام 2011, أضف لذلك التطورات الأخيرة بموقف كل من الأردن وإسرائيل, فالصرخة العالية للملك الأردني عبد الله الثاني حول تهريب المخدرات والسلاح والتي غزت بلاده ومصدرها سوريا, وتأكيد الأجهزه الأمنية والجمركية الأردنية أن تهريب وتمرير المخدرات نحو الأردن يتم بدعم وتغطية وإسناد من قوى عسكرية واستخباراتية حكومية سورية, والصرخة الأردنية وصلت لواشنطن على وجه السرعة, أيضاً يبرز بالجنوب الانزعاج والعتب الإسرائيلي من روسيا, بعد أن فشلت بالإيفاء بتعهداتها لتل أبيب بإبعاد إيران عن حدود الجولان, مع تطورات شرق أوسطية, كلها حملت أملاً جديداً, بتغيير خرائط الجنوب.
فهناك من تحدث عن منطقة آمنة قد يفرضها الجيش الأردني في الجنوب السوري على غرار ما تريده تركيا بالشمال, وهناك من تحدث عن عودة لغرفة الموك وإعادة تشكيل فصائل ثورية تعيد الوضع في الجنوب لما كان عليه قبل عام 2018, وهناك من تحدث عن تعاون مشترك بين الأردن والجيش الحر, وبعض وسائل الإعلام نقلت عن قائد سابق بالجيش الحر تحدث عن اجتماع لقادة فصائل حصل بدولة عربية, وأن هناك تغيرات جذرية مستقبلية قد تزيح “النظام” عن كاهل الجنوب السوري مرى أخرى, لكن تبقى كل تلك التسريبات غير مؤكدة وغالباً ما تم نفيها من الأطراف الفاعلة.