انقسام القوى السياسية الشيعية العراقية

في يوم الأربعاء الماضي، اقتحم متظاهرون من التيار الصدري مبنى البرلمان العراقي، وذلك استباقاً لجلسة كانت مقررة السبت كان سيتم بعدها كما هو معلن إثر انتخاب رئيس للجمهورية، ترشيح أحد المقربين من نوري المالكي زعيم حزب الدعوة المقرب من إيران ورئيس الوزراء السابق 2006-2014 كرئيس جديد للوزراء.

وقد كان التيار الصدري في انتخابات الخريف الماضي، قد فاز بوصفه أكبر كتلة برلمانية وكانت مقاعده تفوق كل مقاعد القوى السياسية الشيعية الأخرى، من حزب الدعوة المنخرط ضمن كتلة دولة القانون أو قوى الحشد الشعبي السياسية أو مجموعة هادي العامري القائد السابق للواء بدر أو كتلة الحكمة بزعامة آل الحكيم وكلهم موجودون في برلمان 2021ضمن ما يسمى بـ”الإطار التنسيقي”.

هنا لم يقبل السيد مقتدى الصدر بعد فوزه البرلماني ذاك بالضغوط الإيرانية من أجل توحد “البيت الشيعي” في البرلمان والحكومة بل أصر على حكومة أغلبية برلمانية تجمعه مع الكتلة البرلمانية السنية العربية بزعامة محمد الحلبوسي ومع الكتلة البرلمانية للحزب الديمقراطي الكردستاني، وأوحى عبر إشارات إلى ابتعاده عن طهران ولتقاربات مع السعودية والأردن ومصر. أنشأ هذا وضعاً واجهه “الإطار التنسيقي” من خلال منع عقد جلسة البرلمان الافتتاحية بعد الانتخابات (وهي لم تعقد حتى الآن) عبر امتلاكه للثلث المعطل حيث تتطلب الجلسة الافتتاحية نصاب الثلثين، وهذا ما دفع السيد مقتدى لأن يأمر نوابه بالبرلمان بالاستقالة وأن يتحول تياره للعمل الجماهيري.

هذا المنظر الشيعي العراقي هو غير مسبوق منذ سقوط نظام صدام حسين في عام 2003، حيث كان المشهد السياسي العراقي لما بعد حكم حزب البعث متحدداً أساساً بهيمنة قوى الإسلام السياسي الشيعي، وحتى عندما تصادمت حكومة المالكي عام 2009 عسكرياً مع “جيش المهدي” التابع للتيار الصدري فإن هذا كان رضًة في الجسم الشيعي السياسي سرعان ما التأمت ولم تكن انقساماً يكسر الجسم إلى معسكرين متضادين يتواجهان في السياسة والشارع وربما في المستقبل عسكرياً عبر ميليشيات أو قوى نظامية في الجيش والأمن تدين بالولاء لكل منهما ويملك كلاً منهما برنامجاً سياسياً داخلياً وخارجياً متناقضاً ومتصادماً مع الثاني ولهما ولاءات إقليمية متصارعة وربما دولية كذلك.

هنا، ساهم هذا المنظر الجديد في تخفيف الاحتقان الطائفي بالعراق، حيث كانت سيطرة القوى الشيعية السياسية العرقية على المشهد السياسي عبر التحالف الأميركي- الإيراني في العراق المغزو والمحتل عام 2003 قد قدحت عود ثقاب النار الشيعية- السنية ليس فقط في العراق وإنما في عموم المنطقة، كما أن انتفاضة تشرين 2019 والتي كان واضحاً فيها قوة الجسم الاجتماعي الشيعي ضد سلطة تدعمها طهران قد أوحى بأن العراق قد بدأ ينحو نحو مجرى سياسي تتحدد فيه الاصطفافات السياسية بشكل عابر للطوائف وللاعتبارات المذهبية، وعندما أتت فكرة حكومة الأغلبية بين الصدر والحلبوسي والبرزاني أوحى هذا بأن العراق يمكن أن يصل لتجاوز الاصطفاف الشيعي- السني والعربي – الكردي عبر تكتل سياسي جديد يوجد ضده شيعة في “الإطار التنسيقي” وسنة عرب في “الحزب الإسلامي” وكرد في “الاتحاد الوطني الكردستاني”، مما كان سيوحي بأن العراق قد تعافى من مرضي الخلاف الطائفي والخلاف القومي وأن العملية السياسية قد أصبحت تجري وفق محركات جديدة تتحدد خلافاتها عبر الأيديولوجية والبرامج الحزبية وليس عبر شيء شبيه بالنموذج اللبناني في تقاسم الحصص والجبنة وفق “المكونات”، وهو ما أرادت ومارست القوى الشيعية الموالية لطهران محاولة فرضه في العراق، وخاصة نوري المالكي في فترة حكمه.

أي، بمعنى آخر، هذا الانقسام الشيعي- الشيعي هو دليل على صحة مستعادة للجسم الاجتماعي- السياسي العراقي، كما هو حال الانقسام بين الأحزاب السنية والأحزاب الكردية، وليس العكس. كما يدل على اهتزاز القبضة الإيرانية على العراق وضعفها، وإن كانت المحاولة الأخيرة لفرض أو تمرير رئيس وزراء جديد مقرب من إيران في العراق بدلاً من الكاظمي الذي هو أقرب لواشنطن من طهران يدل على محاولة تعزيز الأوراق الإيرانية في المفاوضات النووية مع الأميركان والأرجح أنه يدل على تلبد الغيوم أكثر في منطقة حساسة بين الإيرانيين والأميركان وهو مكان رغم التوترات البينية بينهما كان أحياناً ميداناً للتلاقيات الوسطى بينهما وهو ما كان أثناء اتفاقهما على شخصيات لتولي رئاسة الوزراء العراقية مثل نوري المالكي عام 2006 وحيدر العبادي عام 2014 ومصطفى الكاظمي عام 2020، مما يمكن أن يوحي بمدى التوتر الإيراني- الأميركي في الموضوع النووي ومواضيع أخرى وحيث أن ترجمته يتم تظهيرها الآن في بغداد.