كانت معاهدة لوزان في الرابع والعشرين من يوليو/ تموز عام 1923، بين تركيا وفرنسا وبريطانيا، بمثابة شهادة الوفاة الرسمية للدولة العثمانية، إذ كان من أهم بنودها تحديد الحدود الجغرافية لتركيا، الجمهورية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك، فبموجبها تمّ تحديد حدود تركيا مع كل من اليونان وبلغاريا وسوريا والعراق، والتنازل عن الادّعاء بأي حقوق مالية أو سيادية في هذه الدول إلى جانب مصر والسودان وليبيا وقبرص، حيث أسّست اتفاقية لوزان لمسارين:
الأول: توجه أتاتورك بقوة إلى التأسيس لدولة قومية بعد أن كانت تحكمها أيديولوجية الدولة العثمانية التي كانت تمزج بين الإسلام والقومية التركية والولاء للسلطان.
والثاني: محو الجوانب القانونية لاتفاقية سيفر التي أقرّت بإقامة دولة قومية للكرد وأخرى للأرمن، فكانت لوزان بمثابة بداية لإطلاق الأيديولوجية القومية التركية المُتطرِّفة التي قامت على إنكار الهويات القومية غير التركية في البلاد.
تركيا بعد لوزان أدارت ظهرها للشرق، واتّجهت غرباً نحو أوروبا والعصرنة، ظلّت تحركها النزعة القومية، وعليه احتلت لواء اسكندرون السوري في عام 1939، ومن ثم شمال قبرص عام 1974، وقد كان لهذين الاحتلالين أثرٌ كبير في العودة إلى الأفكار العثمانية تدريجياً، حيث بدا ذلك جليّاً في عهد الرئيس الراحل تورغوت أوزال، قبل أن تصعد رسمياً إلى سُدّة المشهد السياسي في عهد أردوغان وحزبه الحاكم، حزب العدالة والتنمية، خاصة مع الأفكار التي طرحها أحمد داؤود أوغلو حول العمق الاستراتيجي لتركيا، وتصفير المشاكل مع دول الجوار الجغرافي، وطرح إقامة كومنولث عثماني على غرار الكومنولث البريطاني، وقد ألهمت هذه الأفكار أردوغان للشروع فعلياً في مشروع إقامة الدولة العثمانية الثانية.
ولعلّ ما دفعه إلى ذلك جملة من العوامل التي رآها أساسية لتحقيق مشروعه هذا، ومن أهم هذه العوامل، محاولة التخلّص من القضية الكردية بوصفها عاملاً داخلياً يُعيق مشروعه، وفي سبيل ذلك ذهب إلى استخدام أقصى العنف ضد الكُرد في الداخل والخارج، وكذلك ركوب موجة الإسلام السياسي، حيث حمل لواء استخدام جماعات الإخوان المسلمين من بوابة ما عُرف بثورات الربيع العربي، وأخيراً اكتشاف كميات كبيرة من الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط، إذ سارع أردوغان إلى محاولة فرض شروطه في المتوسط، سواءً بعقد اتفاقية مع حكومة السرّاج في ليبيا، أو بإرسال سفن التنقيب عن النفط والغاز في شرقي المتوسط، وهو ما سبّب بتوتر مع اليونان ومن خلفها الاتحاد الأوروبي.
من أهم مظاهر التوجّه التركي لإقامة العثمانية الجديدة، خلق حالة من الفوضى والحروب في مناطق جغرافية واسعة، لاسيما في سوريا والعراق وليبيا بُغية احتلال مناطق محدّدة في هذه الدول، حيث لا يتوقف أردوغان عن القول إن اتفاقية لوزان كانت خسارة كبيرة لتركيا، وإنه لا بدّ من العودة إلى الميثاق الملّي (الوطني) إلى درجة أنه سخر مراراً من حديث البعض عن انتصار أتاتورك في اتفاقية لوزان.
واللافت أنه كلما اقتربنا من الذكرى المئوية للاتفاقية، زاد أردوغان من حديثه عن إقامة تركيا جديدة على أنقاض لوزان، وكي يبرر مشروعية طلبه هذا، ساق مجموعة من الأساطير عن لوزان، منها أن مدّة الاتفاقية هي مئة عام فقط، وأن الاتفاقية منعت بلاده من حق التنقيب عن الطاقة، مع أن كل ما سبق لا يمتُّ للحقيقة بصلة، وهي مجرد مزاعم ساقها أردوغان لتبرير تطلُّعه إلى تحقيق حلمه العثماني بحلول عام 2023.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن أردوغان في حديثه عن اتفاقية لوزان والميثاق الملّي، يتجاهل عن قصد حقيقة ما جرى، ويحاول تحميل المسؤولية لأتاتورك الذي لولاه لما كان هناك لوزان، ولولا لوزان لما أصبح أردوغان رئيساً لبلدية إسطنبول ولاحقاً رئيساً للجمهورية، فالثابت تاريخياً أن السلطان العثماني وحيد الدين هو من وافق على اتفاقية سيفر عام 1920 التي نصّت على سلخ القسم البحري والجنوب والشرق عن حدود تركيا الحالية، فضلاً عن إقامة دولة كردية وأرمنية كما قلنا، في حين رفض أتاتورك كل ذلك، وأعلن الحرب (الوطنية) ضد القوات الأجنبية التي زحفت إلى الأراضي التركية، وتقارب مع لينين قائد الثورة البلشفية في روسيا، وهو ما أدى لاحقاً إلى موافقة الدول الغربية على اتفاقية لوزان التي أقرت بحدود تركيا الحالية.
وعليه، لولا اتفاقية لوزان لما كانت تركيا الحالية فعلاً، ولما أصبح أردوغان رئيساً لها كما قلنا، ومن هنا، فـإن السؤال الجوهري، هو لماذا يطالب أردوغان بالتخلّص من لوزان والعودة إلى المثياق الملّي؟ الجواب المختصر عن السؤال، هو الروح العثمانية الاستعمارية، فالميثاق الملّي يعني باختصار احتلال أراضٍ في الشمال السوري والعراقي، على شكل قوس يمتد من إدلب في شمال غربي سوريا إلى كلٍّ من شمال العراق وإقليم كردستان مروراً بمدن ديرالزور والرّقة والموصل وكركوك وصولاً إلى السليمانية، ولعلّ هذا ما يفسر التليمحات التركية الصريحة إلى حقوق تاريخية في الموصل العراقية وحلب السورية، مقروناً بالحديث عن العثمانية الجديدة، وهي عثمانية تصل حدودها إلى ما يجري في ليبيا حالياً، ومن تصعيد للصراع مع اليونان على بحري إيجه والمتوسط، بل وتهديدات تركية لكل دولة تنتقد أو تقف ضد مشروع أردوغان العثماني الذي يريد قلب حدود الدول والاعتداء على سيادتها وإعادة شعوبها إلى عهد الاستعمار العثماني، إذ أن العودة إلى الميثاق الملّي تعني الانقضاض على جميع الاتفاقيات الدولية التي رسمت الحدود بين تركيا ودول الجوار الجغرافي لها، لصالح حالة استعمارية جديدة.
في التوقيت، لا يمكن فصل دعوة أردوغان إلى التخلُّص من لوزان عن التورط التركي في سوريا ومصر في عهد مرسي وصولاً إلى ليبيا والصومال وقطر وتونس… فثمَّة لحظة اعتقد أردوغان فيها أن التطورات الجارية في العالم العربي توحي له بإمكانية تحقيق أحلامه العثمانية، مستفيداً من دور موقع تركيا في الخلافات بين روسيا والولايات المتحدة، قبل أن يتلّقى أردوغان ضربة قاسمة لمشروعه الإقليمي في مصر، عندما انتفض الشعب المصري ضد حكم الإخوان في عهد مرسي، ويخرج أردوغان من حلب السورية بصفقات مشبوهه، ومن ثم تتلقى الجماعات الإخوانية الهزيمة تلو الأخرى، وهو ما جعل أردوغان يعتمد علناً على الجماعات الإرهابية والمرتزقة لتحقيق أجندته ويتورط أكثر في معادلة الدم في سوريا والعراق، ويصعد مع اليونان في المتوسط وإيجه.
يُسجّل لأردوغان أنه عرف كيف يستغل الفوضى الناشئة في المنطقة عقب ما سمي بثورات الربيع العربي، كما يُسجّل له استغلال الظروف الدولية وتسخير موقع تركيا في التوازانات الدوليّة لتحقيق أجندته، لكنه نسي أن نظام حكمه هش، ويكاد يقف على رجليه في مواجهة التحديات الداخلية، من اقتصاد ينهار، إلى تحويل البلاد إلى دولة بوليسية تكاد تتفجّر من شدة وطأة الاستبداد، وفي كل ذلك يبدو أردوغان في سباق مع الزمن للوصول إلى موعد الانتخابات المقررة في صيف العام المقبل، وهو عام حاسم لحكمه، سواءً في تدشين دولته العثمانية الثانية إن نجح في الوصول إلى السلطة، أو السقوط في فخها الأيديولوجي الذي عفا عليه الزمن، لطالما المستقبل للدول الوطنية القائمة على الاقتصاد والنمو، وفي كل ذلك حصة للشعوب في فتح دفاتر التاريخ، والبحث عن هوية منسجمة مع مُكوّنات الدولة التي تستقيم دون الاعتراف بهذه المُكوّنات عبر الديمقراطية وممارستها على أرض الواقع.