سياسة المناورة والابتزاز

من الصعوبة بمكان توقع بعض العقلانية في سياسة نظام؛ شيّدت دعائمه منذ عهد مؤسسه الأول على مبدأين اثنين: الأول منهما مبدأ الغنيمة، ويعني في التطبيق العملي فتح شهية المناصرين والمؤيدين على النهب والسرقة حتى صار الفساد عنواناً للنظام يُعرف به، والمبدأ الثاني هو وحدانية الرأي، ويعني أن السلطة هي المرجعية الوحيدة لصواب أو خطأ أي موقف أو رأي أو سلوك، وما يصدر عنها هو عين الصواب دائماً. في التطبيق العملي لهذا المبدأ تطلّب الأمر تخوين المخالفين في الرأي و قمعهم وحتى تصفيتهم. واللافت في الموضوع أن كل ذلك كان يجري تحت شعار “ممانعة ومقاومة” مشاريع الهيمنة الأمريكية والصهيونية، أي في استغلال واضح لوطنية السوريين.

وفي عهد الرئيس الابن لم يتغير النهج، بل صار تطبيقه أكثر صرامة. وكما حاول الأب في مرحلة من مراحل أزمة الثمانينات السماح بهامش للتعبير عن الرأي، كذلك فعل الابن في بداية عهده بالهامش ذاته لكن في الحالتين كان الهدف واحداً وهو كشف المعارضين المحتملين من أجل زجّهم في السجن، وهذا ما حصل بالفعل. بكلامٍ آخر لا يمكن توقّع أية عقلانية سياسية في نهج نظام قائم أساساً على النهب والأمن، في مزاوجة قلّ مثيلها في العالم، إنه نظام الطغمة المالية الأمنية كما يجري توصيفه من منظور علم اجتماع السياسة.

في ضوء ما تقدّم، كان واضحاً أن النظام لن يقبل بديلاً عن النهج الأمني في التعامل مع الحركات الشعبية الاحتجاجية التي انطلقت من درعا لتعمّ جميع مناطق سوريا بدرجات مختلفة، لأنه ببساطة لا يعرف غيره. فالنظام الذي منع الحياة السياسية عن شعبه طيلة عقود من السنين، يكون قد منعها عنه أيضاً. غير أنه على خلاف مرحلة الرئيس الأب فإن الظروف الراهنة قد اختلفت كثيراً. في السابق كانت التوازنات الدولية القائمة بين المعسكر السوفييتي والمعسكر الأمريكي تحمي الأنظمة الموالية لهذا المعسكر أو ذاك من المساءلة الدولية، في حال لجأت إلى قمع شعوبها، أما اليوم فإن القانون الدولي الإنساني، والمحكمة الجنائية الدولية، ومجلس الأمن، والمنظمات الإقليمية المختلفة صارت تهتم وتتدخل في الشؤون الداخلية للدول عندما تتعرض شعوبها للقمع من قبل حُكّامها.

جميع هذه الحقائق لم يستوعبها للأسف حكام سوريا اليوم، ولم يستفيدوا من دروس البلقان وليبريا وليبيا وغيرها من البلدان، وهم لا يزالون يراهنون على إمكانية الاستمرار بالنهج السابق ذاته رغم مخاطره الكبيرة والبيّنة على البلد والشعب. واليوم يمكن تلمُّس النتائج المأساوية لهذا النهج من خلال غياب الدولة، ومغادرة أكثر من نصف سكان سوريا لمكان عيشهم إما هجرة او لجوء، عداك عن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعصف بالجميع. 

منذ البداية لم يكن لدى النظام أي تصوّر دقيق لطبيعة الأزمة في سوريا، فأحالها إلى المؤامرة الخارجية، وبنى كل سياساته للتعامل معها على هذا الأساس. لقد رفض المبادرة العربية الأولى لحل الأزمة بعد أن تفجّرت وأخذت بُعداً شبه شامل لجميع مناح الدولة، لكنه قَبِل بصيغتها الثانية “المُخففة” كنوع من المناورة لكسب الوقت. لقد كان هدف المبادرة ” الوقف الفوري والشامل لأعمال العنف والقتل، ووضع حد للمظاهر المسلحة والتخلّي عن المعالجة الأمنية تفادياً لسقوط المزيد من الضحايا”، من أجل خلق “بيئة” ملائمة لبدء الحوار بين السلطة السورية والمعارضة. إضافة إلى ذلك فقد كان واضحاً في حينه إن استمرار الخيار الأمني للسلطة السورية سوف يقود لا محالة إلى ” اندلاع صراع بين مكونات الشعب السوري”، مما يهدد “السلم الأهلي” ووحدة “نسيج المجتمع السوري” و هذا ما حصل للأسف.

بطبيعة الحال، لم يُنفّذ النظام أي إجراء مما طالبت به المبادرة العربية، في صيغتها الأولى والثانية، واستمر بالنهج ذاته مع بقية المبادرات التي صدرت عن الأمم المتحدة في ولاية كل من كوفي عنان والأخضر الإبراهيمي ودي مستورا، وهو مستمر اليوم في النهج ذاته في عهد المفوّض الدولي الجديد غير بيدرسن، إنه نهج المناورة والمماطلة.

لقد راهن النظام منذ البداية على قواته العسكرية والأمنية، وراهن أيضاً على انقسام المواقف الدولية والعربية تجاهه لحسابات مختلفة. لقد نجح بتجديد الدعم الروسي والصيني له، الذي تطور لاحقاً إلى حدّ التدخل الروسي العسكري المباشر في سوريا في خريف عام 2015، دعماً له ولمنع سقوطه بيد القوى المتطرّفة والإرهابية بحسب رأيه . وراهن النظام أيضاً على عدم جدية العرب في تنفيذ العقوبات عليه، وعلى انقسامهم تجاه ما يجري في سوريا. ولايزال النظام يماطل ويناور فيما يتعلق بأشغال اللجنة الدستورية، التي لم تحرز أي تقدّم خلال جولاتها الثمانية التي عقدتها، ومن غير المتوقع أن تنجز أي تقدم في المستقبل.

على ما يبدو فإن النظام السوري مستعدّ للقبول بحصته ( ما يُسمى بسوريا المفيدة) من سوريا التي باتت مقسّمة إلى ثلاث مناطق نفوذ تحكمها ثلاث سلطات أمر واقع. إن تغيير النظام الاستبدادي السوري إلى نظام ديمقراطي لا مركزي صار القضية الأولى لإنقاذ الشعب السوري، وتوحيد سوريا، ولخروج القوات الأجنبية منها، ولاستعادة استقلالها، بل من أجل عيش السوريين بحرية وكرامة وكفاية.