الأطلسيّون في مدريد

عقب لقاء قمة قادة دول حلف الأطلسي (الناتو) في العاصمة الإسبانية مدريد، يوم الأربعاء الماضي، قال رئيس الوزراء الهولندي العبارة التالية: “القمة أظهرت أن الناتو قد عاد”، في ردٍّ بالغالب على عبارة قالها الرئيس الفرنسي ماكرون عام 2018: “الناتو في حالة موت سريري”، وربما إظهار أنه قد استفاق من تلك الحالة، والفضل في ذلك يعود للغزو الروسي لأوكرانيا، التي يقول البيان المشترك للقمة إنها قد عُقدت “في ظل عودة الحرب للقارة الأوروبية”.

إذا جرى تسجيل أهم ما حصل في تلك القمة، فيمكن القول أولاً؛ بأن هناك مفهوماً جديداً لوظائف الناتو، الذي كانت وظيفته الوحيدة المعلنة منذ تأسيسه عام 1949هي الدفاع، لتصبح منذ يوم 29 حزيران 2022 أربعة وظائف هي الردع والدفاع والإدارة (الوقاية من الأزمات) والرابعة هي التعاون الأمني، وقد كان مُلفتاً أن لا يشرح البيان المشترك للقمة المفهوم الجديد بل اكتفى بالإشارة إليه، فيما قام بشرحه التلخيص الصحفي للبيت الأبيض الذي أشار إلى أنه كمفهوم جديد سيوضع على أجندة التنفيذ ضمن سياق زمني سقفه عام2030،مع تشكيل قوة طوارئ للناتو تصل إلى ثلاثمئة ألف جندي.

النقطة الثانية، أن الموافقة في القمة على ضمّ فنلندا للناتو قد أضافت 1343كم جديدة لحدود الناتو مع روسيا، كما أن ضمّ فنلندا والسويد سيجعل في حال أي مواجهة عسكرية هناك إمكانية للناتو لأن يُغلق خليج فنلندا أمام السفن الآتية أو المتوجّهة لميناء سانت بطرسبورغ عبر ساحلي فنلندا وأستونيا على الخليج ومن خلال الإطلالة السويدية على فتحته، كما أن الناتو الذي كان قبل يوم الأربعاء الماضي، يمتد من بحر البلطيق إلى البحر الأسود في جبهته الشرقية قد أصبح بعده يمتد من بحر بارينتس إلى البحر الأسود من خلال اتصال فنلندا مع الجزء النرويجي المطلّ على بحر بارينتس والذي يُشكِّل الحدود النرويجية- الروسية.

النقطة الثالثة كانت حضوراً غير مسبوق للقمة من قبل قادة اليابان وكوريا الجنوبية واستراليا ونيوزيلندا، وسط مؤشرات على اتجاهات نحو تشكيل “ناتو آسيوي”، بالتزامن مع حديث عن إمكانية تشكيل “ناتو شرق أوسطي”، صرّح به الملك الأردني عبدالله الثاني مؤخراً.

النقطة الرابعة كانت اعتبار بيان القمة أن “الاتحاد الروسي يشكل التهديد المباشر والأكثر تأثيراً على أمن الحلفاء وعلى السلام والاستقرار في المنطقة الأطلسية- الأوروبية” ثم إشارته إلى أن الحلف يواجه ” تنافساً منهجياً من أولئك، بما فيهم جمهورية الصين الشعبية، الذين يتحدون مصالحنا وأمننا وقيمنا ويسعون لنسف القواعد المؤسسة للنظام الدولي”، وهي نقطة شرحها أكثر؛ التلخيص الصحفي للبيت الأبيض عن قمة مدريد لمّا أشار “لضمان الأمن الأطلسي- الأوروبي في مواجهة العدوان الروسي بالتوازي مع التحديات المنسقة التي تأتي من جمهورية الصين الشعبية ومن التعاون الاستراتيجي الذي يزداد عمقاً بين روسيا والصين”، وهو ما يُوحي بأن الناتو، إسوة بالولايات المتحدة التي وضعت الصين وروسيا في سلة واحدة منذ وثيقة “استراتيجية الأمن القومي الأميركي” المعتمدة منذ يوم 18 كانون الأول 2017 والتي أشرت إليها في مقالي بنورث برس، يوم الاثنين الماضي، أصبح يضع الصين وروسيا في مرمى واحد.

من هنا، يمكن دراسة معاني “أطلسي مدريد”، وأولها أن هناك مرحلة جديدة في العلاقات الدولية تسمها بطابعها وتحددها المواجهة التي أعلنها الناتو منذ يوم 29 حزيران 2022 ضد محور بكين- موسكو، وهذا يعني من خلال حضور اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا، أنّ المواجهة ستكون في النطاق الأطلسي- الأوروبي وفي “منطقة المحيطين الهادئ- الهندي” إذا أخذنا بعين الاعتبار تحالف (كواد: الولايات المتحدة- اليابان- أستراليا- الهند)  وتحالف (أوكوس: الولايات المتحدة-المملكة المتحدة-أستراليا). المعنى الثاني أن هناك اتجاهاً للتصعيد من قبل الناتو ضد روسيا في الحرب الروسية- الأوكرانية، وأن لا اتجاه نحو تسوية على الطراز الذي اقترحه كيسنجر في منتدى دافوس بل اتجاه نحو محاولة تغيير الوقائع العسكرية على الأرض الأوكرانية ضد الروس، ويبدو أن التلميحات التي قالها زيلنسكي ضد كيسنجر عندما تحدث عن “ميونيخ ثانية” وأن “أوكرانيا لن تكون تشيكوسلوفاكيا 1938التي جرى التضحية بها من قبل البريطانيين والفرنسيين لإرضاء الألمان في مؤتمر ميونيخ” قد أقنعت قادة الناتو بأن إرضاء بوتين في أوكرانيا سيفتح شهيته في أماكن أخرى.

كتكثيف: يمكن أن يلخص الدلالات العميقة لما جرى في مدريد، قول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يوم الخميس، عندما تحدث عن “ستار حديدي جديد قد تمّ إسداله بين روسيا والغرب”. هنا، يمكن أن يكون كلام لافروف مشابهاً لكلام وينستون تشرشل عام 1946عن “ستار حديدي يقسم أوروبا، أقامه ستالين بين بحر البلطيق والبحر الأدرياتيكي”، وقد كان كلام تشرشل الجرس الأول عن قرب نشوب الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي التي بدأت عام 1947 وانتهت عام 1989 بانتصار واشنطن وكان ميدانها العالم عبر مواجهات وحروب بالوكالة فيما بين المعسكر الغربي وحلفائه العالميين وبين المعسكر السوفييتي وحلفائه العالميين وكادت المواجهة النووية المباشرة أن تحصل لمرتين بين الأميركيين والسوفييت في كوبا 1962 وفي حرب أكتوبر 1973. يمكن أن يعزز معنى كلام لافروف قيام المجتمعين في مدريد بتحديد العاصمة الليتوانية فيلنيوس، مكاناً لقمة الناتو في عام 2023، حيث سيكون مكان القمة عند ذلك “السور الجديد”.