بعد ثلاثة أشهر من الحرب في أوكرانيا فوجئ العالم بما قاله الدكتور هنري كيسنجر، الديبلوماسي الأميركي الأشهر في القرن العشرين، في منتدى دافوس، لما دعا إلى تقسيم أوكرانيا وفق خط الفصل القائم قبل بدء الحرب وداعياً إلى بدء المفاوضات خلال شهرين ومعتبراً أن متابعة الحرب خلافاً لذلك ستكون ليست “حرباً من أجل أوكرانيا بل حرباً جديدة ضد روسيا نفسها…، ومحذراً من أن هزيمة محرجة لروسيا، ستزعزع الاستقرار الأوروبي على المدى الطويل”، (الاقتباس من جريدة “الواشنطن بوست”، 24 أيار 2022).
وقد كانت المفاجأة هنا أن كلام كيسنجر يناقض السياسة الأميركية ليس فقط في الحرب الأوكرانية بل يتعارض جبهياً مع خط سياسي عام بدأ مع وثيقة “استراتيجية الأمن القومي الأميركي” التي تم التوقيع عليها من قبل الرئيس دونالد ترامب في يوم 18 كانون الأول 2017، بما تتضمنه من تحديدات للتحديات والتهديدات على الأمن القومي الأميركي، حيث وضعت تلك الوثيقة لأول مرة منذ عام 1971 الصين وروسيا في سلة واحدة، من خلال اعتبارها أن الصين “منافس استراتيجي” للولايات المتحدة، وروسيا بوصفها “تهديداً استراتيجياً رئيسياً”، وهو ما كان يناقض خطاً عاماً أميركياً بدأه كيسنجر، عندما كان مستشاراً للأمن القومي الأميركي، لما أقام تقارباً مع الصين منذ زيارته لبكين في تموز 1971 لتفريق الصينيين عن السوفيات الذين اعتبرهم الأميركان في زمن الحرب الباردة “المنافس الاستراتيجي”، وعندما انتهت الحرب الباردة عام 1989 بهزيمة السوفيات ومن ثم تفكك الاتحاد السوفياتي فإن الصين قد وضعت منذ التسعينيات في عهد كلينتون في وضعية المنافس الاستراتيجي وكان رأي الإدارات الأميركية المتعاقبة، لكلينتون وبوش الابن وأوباما، أن التقارب مع روسيا ضروري لهزيمة الصينيين في التنافس الاستراتيجي، وحتى الكثير من آراء ترامب في حملته الانتخابية وفي تغريداته على التويتر وفي تصريحاته الصحافية وفي طريقة تعامله مع الرئيس الروسي كانت توحي بأنه من رأي أسلافه، ولكن يبدو أن رأي “مجمع الأمن القومي الأميركي”، أي وزارة الدفاع – البنتاغون ووكالات الاستخبارات، هو الذي فرض عليه التوقيع على وثيقة 18 كانون الأول 2017.
من جهته، فإن جو بايدن ومنذ أن أعلن ترشيحه للرئاسة داخل الحزب الديمقراطي كان على ما يبدو منسجماً مع وثيقة “استراتيجية الأمن القومي الأميركي”، وهو ما يظهر جلياً من مقالته في مجلة “فورين أفيرز”، بعدد آذار- نيسان2020، التي كانت بعنوان “لماذا يجب أن تتولى أميركا القيادة ثانية: إنقاذ السياسة الأميركية بعد ترامب”، حيث يقسم العالم إلى فسطاطين، أنظمة ديمقراطية وأنظمة استبدادية أوتوقراطية، وهو يضع بوتين ضمن الأخيرة مع الزعيم الصيني، ويدعو إلى بناء تحالف يضم حلف الأطلسي- الناتو واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والهند بقيادة واشنطن وهو يقول بمقالته المذكورة بأن “انتصار الديمقراطية والليبرالية على الفاشية والأوتوقراطية قد خلق العالم الحر، ولكن هذا الصراع لم يقم فقط بتحديد ماضينا بل هو بالتوازي سيحدد مستقبلنا”.
وعملياً فإن إدارة بايدن في السنة وخمسة أشهر من دخوله البيت الأبيض قد اتبعت هذا الخط، أي إعادة بناء الناتو وإنشاء تحالفات جديدة في “منطقة المحيطين الهادىء- الهندي”، أي تحالف أوكوس (الولايات المتحدة- المملكة المتحدة- أستراليا) ومن ثم تعزيز تحالف كواد (الولايات المتحدة- اليابان- الهند- أستراليا) وأيضاً إقامة الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهادئ- الهندي الذي يرمز له اختصاراً بـIPEF وهو يضم الدول المحيطة بالصين بالشرق والجنوب والجنوب الغربي من الهند حتى اليابان ماعدا كوريا الشمالية وميانمار ولاوس.
وكل من يفحص سياسة بايدن سيرى، إضافة لسياسة المجابهة مع الصين، بأن الحرب في أوكرانيا كانت نتيجة طبيعية لسياسة أميركية اتجهت للمجابهة مع روسيا إلى درجة دفعت بوتين نحو شن حرب اعتبرها بعدد من خطاباته بأنها لمجابهة “تهديدات وجودية وليست حدودية”، وتصريح ديمتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، في20 حزيران 2022 عن أن “علاقتنا مع واشنطن قد وصلت إلى درجة الصفر”، هو منتهى ما أرادته إدارة بايدن وخاصة في سياستها لما بعد بدء الحرب في أوكرانيا، حيث من الواضح تغلب سياسة المواجهة مع الكرملين على سياسة الاحتواء والمراضاة لبوتين التي دعا لها كيسنجر بتصريحه في دافوس.
الآن، وبعد أربعة أشهر من الحرب في أوكرانيا، هناك تغلب لنظرة بايدن في واشنطن على نظرة كيسنجر لروسيا، رغم أن هناك مؤشرات إلى أن الرئيس الفرنسي ماكرون والمستشار الألماني شولتس، وبعد اشتداد الآلام الاقتصادية للحرب في أوكرانيا والتي بدأت تضغط على عموم دول الاتحاد الأوروبي، يميلان لرأي كيسنجر، فيما رئيس الوزراء البريطاني جونسون مع رأي بايدن، بينما الرئيس الأوكراني زيلنسكي مازال يبدي تصلباً رغم التراجعات العسكرية للأوكرانيين.
كتكثيف: إن تغلَّب رأي كيسنجر على رأي بايدن فإن وثيقة 18 كانون الأول 2017 ستوضع في المتحف وسيكون هناك عودة إلى سياسة التفريق بين روسيا والصين في واشنطن لمراضاة موسكو وكسبها في المعركة الأميركية ضد الصين التي هي “المنافس الاستراتيجي” للقطب الواحد الأميركي للعالم. ولكن إن استمر رأي بايدن في الأرجحية بواشنطن، فهذا يعني الاستمرار في سياسة المجابهة المفتوحة الأميركية مع الروس بالترافق مع إشعالٍ أكثر للنار الأوكرانية، مع احتمال إضافي بإشعال نيران في أماكن أخرى ضد الروس من قبل الأميركان ربما تكون منها سوريا، وهو ما يلفت النظر أنه يتوازى مع سياسة توتير متزايدة من قبل الأميركان مع الصين لدرجة إعلان الرئيس الأميركي ومن طوكيو في يوم 23 أيار 2022 عن “الاستعداد الأميركي للدفاع عسكرياً عن تايوان في حال غزو عسكري صيني” وهو تصريح غير مسبوق أميركياً خلال خمسين عاماً من العلاقات الأميركية- الصينية، ودلالته أنه يأتي بعد قليل من الهجوم الروسي على أوكرانيا وعلى وقعه.