تطويق الصين

محمد سيد رصاص 

تم في طوكيو بيوم 23 أيار 2022 التوقيع على إطلاق “الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهادئ- الهندي من أجل الازدهار” والذي يرمز له باختصار ( IPEF )، وهو يضم الولايات المتحدة الأميركية- اليابان- الهند- أندونيسيا- أستراليا- نيوزيلندا- كوريا الجنوبية- ماليزيا- الفليبين- فييتنام- تايلند- بروناي- سنغافورا.

كانت إدارة ترامب قد انسحبت من إطار اقتصادي لمنطقة المحيط الهادئ في عام 2017 هو اتفاق “الشراكة عبر الباسفيك – TPP” كانت إدارة أوباما قد وقعته مع الدول المشاطئة للمحيط الهادئ في آسيا والقارتين الأميركيتين مع استثناء الصين (وكوريا الشمالية)، وهو كان تعبيراً عملياً عن (الانزياح الأميركي) نحو آسيا لتطويق الصين المعلن عام 2011 في العام التالي لبلوغ الصين المرتبة الاقتصادية العالمية الثانية.

يلفت النظر في الإطار الجديد اقتصاره على دول آسيوية وأوقيانوسية والدولة الأميركية الوحيدة فيه هي الولايات المتحدة، كما أنه يضم كل الدول المحيطة بالصين شرقاً أو جنوباً أوفي الجنوب الشرقي أو التي لها حدود معها ماعدا لاوس وميانمار بالجنوب ونيبال وباكستان غرباً، هذا إذا غضضنا البصر عن أفغانستان غرباً والمحيط الشمالي للصين الذي يشمل روسيا ومنغوليا وكازاكستان وقرغيزيا وطاجكستان، وطبعاً كوريا الشمالية.

هنا، كان ملفتاً أن يطلق هذا الاطار الاقتصادي بالتزامن مع انعقاد قمة منظمة “الحوار الأمني الرباعي-  QUAD” باليوم التالي في طوكيو أيضاً، والتي تضم الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا، وهي إطار سياسي- عسكري- أمني هو موجود منذ عام 2017، وقد انضاف لها معاهدة عسكرية – أمنية في أيلول الماضي هي “أوكوس-   AUKUS” والتي هي جمع لاختصارات أسماء الدول الثلاث الموقعة عليها وهي أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.

في الاتفاقيات الثلاث المشار لها أعلاه، هناك مشترك اصطلاحي هو ما يجري تسميته “منطقة المحيطين الهادئ- الهندي”، ووجود الولايات المتحدة في الاتفاقيات الثلاث، ثم وجود المملكة المتحدة في (أوكوس)، وهي الدولة الأوروبية الوحيدة التي يجري إشراكها في هذه الاتفاقية التي تضع مجالها الجغرافي في “منطقة المحيطين الهادئ- الهندي”، وذلك بعد قليل من خروج لندن من الاتحاد الأوروبي، وهذا بالتأكيد له دلالاته. طبعاً، ومن أجل فهم تكون وولادة هذه الاتفاقيات الثلاث، يجب الربط مع الانزياح الأميركي نحو تركيز الاهتمام على آسيا في ظرف ينتقل لمنطقة المحيط الهادئ- الهندي الثقل الاقتصادي العالمي، بعد أن كان هذا الثقل في المحيط الأطلسي منذ القرن السادس عشر، وهناك الآن حديث في واشنطن نراه في مراكز الأبحاث عن أن القرن الجديد هو “القرن الآسيوي”، وعن أن (كواد) و(أوكوس)هما النواة لـ”الناتو الآسيوي”.

بهذا الإطار، لا تخفي واشنطن أن هذه الأطر الثلاث الهدف منها هو تطويق الصين، واحتوائها عبر “احتواء ناعم”وسيلته هي شراكات سياسية – عسكرية – أمنية – اقتصادية. طبعاً، هذا يؤكد أن الصين هي الهدف الأميركي الرئيسي الآن، كما كان الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة 1947-1989، وليس صدفة أو “زلة لسان” ما قاله الرئيس الأميركي جو بايدن يوم الاثنين الماضي ومن طوكيو بالذات عن “الاستعداد الأميركي للدفاع عسكرياً عن تايوان في حال غزو عسكري صيني” وهو ما أثار دهشة الكثيرين لصدوره في لحظة الانشغال الأميركي بالغزو الروسي لأوكرانيا وباعتبار أنه يخالف سياسة أميركية ظهرت في آذار الماضي للتودد الأميركي نحو الصين من أجل تحييدها بالحرب الروسية- الأوكرانية التي أصبحت حالة مواجهة ولوغير مباشرة بين روسيا ودول حلف الأطلسي- الناتو يمكن للمرء أن يقوم بوضعها في إطار أنها “حرب عالمية رابعة” ولكن مصغرة في بقعة جغرافية اسمها أوكرانيا، كما كانت الحرب الباردة هي “الحرب العالمية الثالثة” ولكن أيضاً غير مباشرة بين العملاقين الأميركي والسوفياتي وكذلك عبر حروب بالوكالة كان نطاقها الجغرافي العالم بأسره. في هذا الصدد، يمكن أن يعبر تصريح بايدن عن انقلاب الموازين في أوكرانيا ضد موسكو وعن شعور أميركي بأنه يمكن تجاوز الاعتبارات التي كانت قبل شهرين والتي جعلت واشنطن تتودد لبكين من أجل ابعادها عن موسكو في لحظة التوتر القصوى في أوكرانيا.

هنا، يجب أن نعود إلى عام 2018 عندما اعتبرت إدارة ترامب أن الصين وروسيا يمثلان معاً خطراً وتهديداً على الأمن القومي الأميركي، وهو كان أمراً مناقضاً لسياسة أميركية ثابتة بدأت عام 1971، مع زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي الدكتور هنري كيسنجر للصين، اتجهت نحو التفريق الأميركي بين بكين وموسكو، حيث استمالت واشنطن الصينيين ضد السوفيات حتى عام 1989، وبعد الانزياح نحو آسيا عام 2011 حاول أوباما استمالة موسكو نحو واشنطن ضد الصينيين باعتبار أن بكين قد أصبحت “هي التناقض الرئيسي” بالنسبة للأميركان، وهنا كان ترامب في نفس هذا الاتجاه لأوباما ولكن يبدو أن البنتاغون والدولة العميقة في الولايات المتحدة الأميركية قد فرضت سياسة وضع بكين وموسكو في مهداف أميركي واحد منذ نهاية عام 2018.

وهناك، في هذا الإطار تفسيرات للسلوك الأميركي المتشدد ضد موسكو في الحرب الأوكرانية بأنه رسالة للصين من أجل ردعها عن أن تفعل في تايوان ما فعله الروس في أوكرانيا، وتفسير آخر بأن الهدف هو جعل أوكرانيا مستنقعاً روسيا لاستنزاف الكرملين نحو تحقيق هدف تفكيك الاتحاد الروسي للوصول إلى تطويق الصين من الشمال، لينضاف هذا إلى التطويقات الأميركية للصين عبر (QUAD-AUKUS-IPEF)، من أجل أن يصل الأميركان بالصينيين إلى ما فعلوه بالاتحاد السوفياتي.

ولكن، كان هناك صوت أميركي قوي مضاد لبايدن، أطلقه هنري كيسنجر في منتدى دافوس بيوم الاثنين الماضي، عندما دعا إلى “عدم البحث عن هزيمة محرجة لروسيا لأن هذا يمكن أن يضر بالاستقرار الأوروبي على المدى البعيد” وداعياً إلى تقسيم أوكرانيا جغرافياً وفق خط الواقع القائم في صباح يوم 24 شباط 2022 من أجل كسب الروس للغرب، في تفكير من صانع سياسة التفريق بين بكين وموسكو قبل نصف قرن من الزمن من أجل تكرار ذلك السيناريو ولكن هذه المرة باستخدام الروس أميركياً ضد الصين.