أشكال الصراع السياسي

يكتب فريدريك انجلز في كتابه “حرب الفلاحين في ألمانيا” الكلمات التالية: “إن الحركة الإصلاحية (اللوثرية والكالفينية) هي الثورة البورجوازية رقم واحد في ألمانيا”، حيث أن “المنازعات الدينية- السياسية لتلك الفترة هي انعكاس للصراع الطبقي”. وقد قام انجلز في ذلك الكتاب بدراسة ثورة الفلاحين الألمان في عام 1525 حيث انقسمت ألمانيا بين شمال بروتستانتي، يضم الفلاحين وعامة المدن وما كان يسمى بـ”أشراف” أو “أمراء” المدن، وبين جنوب كاثوليكي ضم كبار الإقطاعيين ومؤسسة الكنيسة الكاثوليكية بأساقفتها ورهبانها ومؤمنيها من العامة وقد كانوا مدعومين من روما ومن النمسا كما كانت الكنيسة هي المالك الأكبر للأراضي في ألمانيا، وهنا يشير انجلز إلى أن  “معسكر الإصلاح اللوثري المعتدل كان على عادة سكان المدن يشد إلى صفوفه العناصر المالكة من صغار النبلاء وسكان المدن بل وجزءاً من الأمراء الدنيويين الذين كانوا يطمحون للإثراء بمصادرة أملاك الكنيسة.. أما الفلاحون والعامة فقد كانوا يشكلون حزباً ثورياً”.

في حرب الفلاحين في ألمانيا أخذ الصراع شكلاً دينياً بين بروتستانت وكاثوليك، وكان البروتستانت في الشمال جغرافياً، والكاثوليك جنوباً، كما أن البروتستانت كانوا ضمن تحالف طبقي واسع يمتد من أمراء و”أشراف” المدن، وهم بقايا نبلاء إقطاعيين تدهورت أوضاعهم الاقتصادية ومكانتهم الاجتماعية أمام كبار الإقطاعيين وأمام الكنيسة المدعومة من النمسا وروما، فيما كان الكاثوليك يمثلون كبار الإقطاعيين والكنيسة الكاثوليكية التي كانت المالك الأكبر للأراضي في ألمانيا. هذا الشكل الديني له مضمون اقتصادي- اجتماعي، كما أن السياسة كانت أداته، والثقافة وقوده. وبمعنى آخر هو صراع طبقي، والطبقات والفئات الاجتماعية تتغلف أو تتمظهر في شكل جماعة دينية.

الآن، بعد خمسة قرون على حرب أو (ثورة) الفلاحين في ألمانيا، ورغم الوحدة الألمانية منذ عام 1871، مازالت هناك الحساسية المناطقية بين شمال بروسي بروتستانتي قام عبر المستشار بسمارك والجيش بانجاز قسري للوحدة الألمانية بعد هزيمة النمسا وفرنسا الكاثوليكيتين، وبين جنوب كاثوليكي كان أكثر تطوراً من الناحية الصناعية وفي مظاهر التمدن. وقد انعكس ذلك حتى في الأحزاب الألمانية، بما فيها حزب الماركسيين الألمان، الذي تأسس في مدينة غوتا عام 1875 تحت اسم الحزب الاشتراكي الديمقراطي، حيث ظلت الحساسية بين البروسيين وبين من أتى من بافاريا، ولكن لم تعد البروتستانتية والكاثوليكية هما شكل الصراع أو الاختلاف أو الحساسية، كما كان الأمر في عام 1525، وإنما هناك أشكال متعددة لذلك.

عملياً، كل الصراعات الاجتماعية تأخذ منحى سياسياً، ولكن عبر أشكال مختلفة ومتعددة. يمكن أن يكون هناك الشكل الطبقي الصرف، كما في البلدان الصناعية المتقدمة، فيما الصراعات ذات الأشكال الأخرى تعبر عن مستوى صناعي أقل تقدماً للبلد المعني، كما الصراعات، مثل القومية الداخلية في بلد واحد كما في إيران أو العراق أو تركيا أو أفغانستان، أو الدينية – القومية كافي سيريلانكا في فترة 1983-2009 بين السنهال البوذيين وأقلية التاميل الهندوسية في الشمال والشمال الشرقي من البلاد، أو الطائفية كما في الهند بين الهندوس والمسلمين قبل تقسيم 1947 ونشوء دولة باكستان أوفي هند ما بعد الاستقلال، أو الجهوية كما في إثيوبيا بين المركز الحكومي ومنطقة إقليم تيغراي، أو المناطقية كما في ليبيا منذ استقلالها عام 1951 بين الشرق في برقة ومنطقة طرابلس بالغرب.

هذه أشكال للصراع، ولكنها مثل الصراع الطبقي في البلد الصناعي المتقدم، هي ذات منحى سياسي كسياق عملي، تعبر أيضاً عن محتويات اقتصادية- اجتماعية- ثقافية، يحملها كل طرف من أطراف الصراع، وهي لا تعبر عن عدم وجود طبقات اجتماعية بل عن نزوع هذه مجتمعة أو معظمها إلى تغليب الأشكال الأخرى غير الطبقية للصراع ويكون ذلك لأسباب مختلفة تعود للوضع القائم في البلد، ولو أن المصالح الاقتصادية- الاجتماعية (زائد الهوية الثقافية) تكون هي الوقود المحرك لكل الصراعات المذكورة.

من ناحية أخرى، فإن بروز الأشكال الأخرى للصراع، غير الشكل الطبقي، يعبر عن مشكلات لم تحل بعد، أو عن أن البلد المعني لم يصل إلى مستوى من التطور تكون فيه تلك المشكلات قد حلت. فالمستوى الحضاري للبلد أو لبنته الاجتماعية تنعكس على الأحزاب السياسية وعلى الأفكار وعلى طبيعة الأيديولوجيات المحمولة، وحتى عندما تكون هناك أشكال سياسية أو نظم حكم توحي بأن هناك وصولاً إلى “وحدة وطنية”، فإن صراعات الحاكمين أحياناً ممكن أن تعطي صورة عن القعر الاجتماعي، مثل صراعات جناحي الحزب الاشتراكي اليمني عام 1986 لما انقسم الحاكمون والبناء الحزبي بين المنحدرين من محافظة أبين، مثل علي ناصر محمد، وبين من هو من مناطق الضالع وحضرموت مثل علي عنتر وعلي سالم البيض، بعد تسعة عشر عاماً من الحكم الماركسي التوجه، وقاموا بحمل السلاح ضد بعضهم البعض في اجتماع المكتب السياسي للحزب ثم في صراع دموي ذهب ضحيته الآلاف.

يقول كارل ماركس في مقدمة كتاب “إسهام في نقد الاقتصاد السياسي” الكلمات التالية: “فليس وعي الناس هو الذي يعين وجودهم، بل إن وجودهم الاجتماعي على العكس من ذلك هو الذي يعين وعيهم”، ثم يضيف في تلك المقدمة: “إذا نظرنا إلى الأمر عن كثب وجدنا أن المسألة نفسها لا تظهر إلا حيث تتوفر الشروط المادية لحلها أو حيث تكون على الأقل على أهبة التوفر”.

يمكن الإضافة هنا أيضاً بأن المشكلة أو المسألة أو القضية تظهر من جديد عندما يكون هناك فشل في حلها أو عندما يكون قد أهيل تراب خفيف فوقها لإخفائها، كما جرى عبر الطلاء الأممي في التجربة السوفياتية على السطح ثم بان بعد تفكك الاتحاد السوفياتي بأن المسألة القومية ليس فقط لم تحل بعد بل أصبحت في وضع انفجاري.