عندما يقدم أردوغان نفسه داعية سلام!!

عندما شنت روسيا الحرب ضد أوكرانيا في الرابع والعشرين من شهر شباط الماضي، رفع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، صوته عالياً في وجه نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، يومها، أدان أردوغان الحرب الروسية، ووصفها بغير المقبولة، وعدها انتهاكاً للقانون الدولي، بعد أيام قليلة من هذه المواقف المؤيدة لأوكرانيا في مواجهة الحرب الروسية، خف صوت أردوغان كثيراً، وحرص الرجل على الظهور بمظهر الرجل الساعي لتحقيق السلام، ويسعى للتوسط بين موسكو وكييف، مبدياً عروضاً كثيرة للجمع بين قادة البلدين في تركيا، حيث أطلق سلسلة اتصالات هاتفيه مع نظيريه الروسي والأوكراني، بل إن أردوغان رفض كل دعوات الغرب لفرض عقوبات على روسيا رغم أن بلاده عضو في حلف الأطلسي، فما الذي دفع أردوغان إلى تغيير موقفه هذا خلال أيام قليلة؟ وما هي الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذا التحول في موقفه؟ وهل سيظل أردوغان على موقفه هذا إذا طالت الحرب الروسية – الأوكرانية، خاصة في ظل تباعد مواقف الجانبين؟ أسئلة كثيرة ربما من الصعب الإجابة عنها دون التوغل في عقل أردوغان وحساباته، وهي حسابات تكذب كل محاولاته لتلميع صورته كرجل سلام، وصانع له، خاصة أنه متورط في حروب كثيرة، من سوريا، إلى ليبيا، وصولاً إلى ناغورني قره باغ، فضلاً عن حربه الدموية المستمرة  ضد الكرد في الداخل والخارج.                                    

في الواقع، حسابات أردوغان من اتخاذه دور رجل السلام كثيرة، ولعل أهمها:  

1- أن أردوغان يدرك مدى قوة روسيا كدولة عظمى، ويخشى من التورط في مواجهة معها مهما كانت الأسباب، كما أنه يدرك شخصية بوتين القيصرية، فضلاً عن ذلك، ثمة حساسية تاريخية بين البلدين بشأن العديد من الدول والمناطق التي كانت تابعة لسيطرة الاتحاد السوفييتي قبل انهياره، بل أبعد مما سبق، يدرك أردوغان جيداً حساسية نقاط الاحتكاك التركي – الروسي في سوريا، وليبيا، وناغورني قره باغ، ولعل هذه النقاط يضعها أردوغان في حساباته عندما يكون الأمر متعلقاً بروسيا في ظل التنافس الجيوسياسي بينهما تاريخياً.

2- يشكل العامل الاقتصادي عاملاً أساسيا في حسابات أردوغان، وانتهاجه سلوك حمامة السلام، إذ تحتل روسيا المرتبة الأولى لجهة تأمين الغاز لتركيا، بنسبة خمسة وأربعين بالمئة من حاجتها، وسبعين بالمئة من القمح، والأولى على مستوى عدد السياح الوافدين لتركيا، فيما تحتل أوكرانيا المرتبة الثانية لجهة تأمين هذه المواد الأساسية (الغاز والقمح) لتركيا، وعليه، لا يريد أردوغان أي خسارة تلحق به، لا من روسيا، ولا من أوكرانيا، خاصة أن بلاده تعيش أوضاعاً اقتصادية ومعيشية ومالية صعبة، فهو لا يريد المزيد من الانهيارات المالية بسبب موقف سياسي له من هذه الحرب، لذلك تحول إلى موقف المحايد الساعي للسلام.

3- منذ المحاولة الانقلابية المزعومة في صيف عام 2016، نجح بوتين في زرع الشكوك في عقل أردوغان تجاه الغرب، بوصف الأخير يسعى إلى التخلص من نظامه، وعليه حاول أردوغان خلق مسافة فاصله بينه والغرب في الموقف من الحرب الروسية، إذ أنه رفض فرض عقوبات عليها استجابة لدعوات العواصم الغربية، وتراجع عن موقفه العلني في تأييد حليفه الرئيس الأوكراني زيلنيسكي، وذهبت أنقرة إلى حد الترحيب بالأوليغارشيين من حول بوتين للعمل في تركيا، وكأن لسان حال أردوغان يقول إنه في قلبه مع أوكرانيا، ولكنه لا يعادي روسيا، كما أنه لا يريد لها الانتصار في هذه الحرب، فحسابات تركيا هي الأساس في كل شيء، حتى لو تطلب ذلك منه الظهور بمظهر الرجل الذي يتجاهل أو يتمرد على قرارات حلف الناتو.

4- إن أردوغان في سعيه لأن يكون رجل سلام من خلال إيجاد تسوية للأزمة الأوكرانية – الروسية، يريد صرف ذلك في صناديق الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة صيف العام المقبل، ولعل هذا أهم أسباب اندفاعه إلى السلام بين كييف وموسكو، فالرجل الذي يدرك مدى تراجع شعبيته وحزبه، وصعوبة الأوضاع الاقتصادية والمالية والمعيشية في الداخل التركي، يبحث عن رافعة لزيادة شعبيته من خلال الظهور بمظهر الرجل القوى القادر على تحقيق مثل هذا السلام الصعب.

من دون شك، هذه الأسباب وغيرها هي التي تدفع بأردوغان إلى تقديم نفسه كداعية سلام، وهو في سبيل ذلك يطلق تصريحات يومية توحي بأن سياسته نجحت، أو حققت خطوات كبيرة في هذا المجال، وأنه لم يتبقَّ سوى عقد لقاء بين بوتين وزيلنيسكي في إسطنبول، كما أن إعلامه يضخم من هذا المسار إعلامياً إلى درجة أنه اعتبر إعادة الانتشار العسكري الروسي في بعض مناطق أوكرانيا بوقف لإطلاق النار، فجل هم الرجل، هو أن تكون صورته صورة رجل سلام إلى درجة أن البعض من أنصاره باتوا يروجون لأهمية حصوله على جائزة نوبل للسلام، مع أن حقائق الحرب الروسية – الأوكرانية لا تسير وفق حسابات أردوغان، ولعل أولى هذه الحقائق، التباعد الكبير في مواقف كل من كييف وموسكو للتوصل إلى اتفاق سلام بينهما، لاسيما قضية مصير شبه جزيرة القرم ومنطقة حوض دونباس، والأهم موقف الغرب وتحديداً الإدارة الأميركية التي ترفض أي تسوية تكون بمثابة انتصار لبوتين في هذه الحرب، ويعرف الجميع أن التوصل إلى اتفاق سلام سيكون بقرار أميركي أولاً وأخيراً، لطالما ألقت أميركا وحلفائها بكل ثقلهم في هذه الحرب التي يريد الغرب منها استنزاف روسيا حتى النهاية.

في الواقع، ما يجري اليوم من حديث وترويج تركي لاتفاق سلام روسي – أوكراني ممكن برعاية تركية، هو أقرب لسيناريو إعلان تركيا نجاح وساطتها مع البرازيل في التوصل إلى اتفاق بشأن الملف النووي مع إيران عام 2010، قبل أن تجعل وزيرة الخارجية الأميركية الأسبق، كوندليزا رايس، من الإعلان التركي هذا مجرد تصريح يذهب مع الريح، عندما أعلنت أن إدارتها غير معنية بهذا الإعلان، ولعل مصير الجهود التركية على مسار تسوية الأزمة بين روسيا وأوكرانيا لن يختلف كثيراً عن جهودها السابقة بشأن الملف النووي الإيراني، حتى لو أبدت كييف وموسكو من باب التكتيك الترحيب والتجاوب مع جهود أردوغان ودعواته للسلام، فالجميع، لاسيما بوتين يدرك جيداً حسابات أردوغان الخاصة، كما يدرك جيداً أن قرارات كييف في هذه الحرب هي بيد الغرب الذي لن يسمح لها بتوقيع على اتفاق سلام وفق ما يريده بوتين، كما أن الغرب لا يرى ضرراً من محاولات أردوغان السابقة حتى لو خدمته في الداخل التركي من خلال رفع شعبيته وحزبه قليلاً، والسؤال ماذا لو طالت الحرب واكتشف أردوغان أن الأزمة العميقة بين روسيا من جهة، وأوكرانيا ومن خلفها الغرب من جهة ثانية أكبر من دور تركيا وعلاقة أردوغان الشخصية بكل من بوتين وزيلنيسكي؟

لحظة حقيقة السلام في الحرب الروسية – الأوكرانية لم تأتِ بعد، وغرام موسكو وكييف بوساطة أردوغان ليس أكثر من تكتيك له علاقة بغبار المعارك على الأرض، فلا موسكو تشكو من الطائرات المسيرة التركية بيد الجيش الأوكراني، ولا كييف منزعجة من تهرب تركيا من فرض عقوبات على موسكو كما هو حال كل دول حلف الأطلسي، والجميع يعرف أن خيوط المعادلة هي بين موسكو وواشنطن حتى لو غرد السلطان باسم السلام، وزاد هذا التغريد من شعبيته قبيل الانتخابات، ولكن ماذا لو اكتشف الداخل التركي المكتوي بنيران المعيشية أن كل جهود أردوغان السابقة لم تكن سوى ورقة من أجل صندوق الانتخابات، وأن جميع اللاعبين كانوا يتفرجون على اللعبة؟ يمشي أردوغان فوق خيوط دقيقة، ويدعي الحياد والتوازن من أجل صنع السلام في محرقة الصراع الروسي – الأوكراني، لكن الثابت، هو نفسه لا يعرف إن كان هذا الصراع سيتوجه بنوبل للسلام أم بسقوطه عندما يكتشف الداخل التركي في طريقه للانتخابات، لعبة حساباته الحقيقية من وراء تلميع صورته كرجل سلام، وهو المتورط بلعبة الدم حتى النخاع.