الهريسة على أصولها تُراثٌ تتفرد به النّبك في ريف دمشق

دمشق – نورث برس

ما يزال ورثة ناصر فخر الدّين أول من صنع الهريسة في النّبك بريف دمشق، يرفضون نقلها إلى خارج منطقتهم تلبيةً لوصية والدّهم، إذ باتت هذه الحلوى جزءاً من تراث منطقتهم، التي أصبحت محطة لتوقف المُسافرين لشراء عدة كيلو غرامات منها. 

وفي منتصف الخمسينات، كان هناك رجل عشريني يدعى ناصر فخر الدّين يرتدي ثياباً مُتواضعة يجر عربة مغطاة، ويتجول بها في شوارع مدينة دمشق القديمة، ليبيع الهريسة (النَّمورة) وبقي على هذه الحال قرابة الثّلاثين عاماً، حسب ما يقول نجله محمود.

ويضيف محمود أنه “بعد أنّ لاقى عمله الاستحسان، أسس ناصر محله التّجاري الخاص في الثمانينات، ليرثه أبناءه ويستمروا بما بدأ به والدَّهم”.

ولا يعرف الرّجل من أين تعلم والده صناعة الهريسة، لكنه يكاد يجزم بأن النّصيب الأكبر يرجع إلى أنّ سيدات المدينة كنّ يصنعن أشكالاً مختلفة للحلويات وبأطعمة جديدة، “أظن أن والدي طور الأمر بإضافة السّمن العربي إليها”.

وبالرغم من العروض “المغرية” كما وصفها محمود، إلا أنّ ورثة المهنة نفذوا وصية والدهم بعدم إفشاء سر الصّنعة خارج النّبك.

والآن تنتشر الهريسة النبكية على الاستراحات التي تتوسط الطّريق الدّولي بكثرة، حسب سكان في المنطقة.

“هدية العشاق”

وتذكر فتحية محمد (90 عاماً) وهو اسم مُستعار لإحدى سكان النبك، أنّ هريسة ناصر فخر الدّين كانت رسالة بين العشاق، “كان الشّاب يرسل قطعة من تلك الهريسة للفتاة التي يحب”.

وتشير المسنة إلى أنّ الجميع يصنع الهريسة الآن في المنازل، “صحنها الآن مرتبط بكأس المتة الذي نقدمه للضيوف”.

في حين ترى أنّ الهريسة قديماً كانت بـ”خيرها الكامل”، لأنها لم تكن تُصنع إلا بالسّمن العربي، لكن اليوم لها أشكال وألوان مختلفة دخيلة عليها.

وتقول: “على أيامي كانت النبك قرية صغيرة، وكنا نقدم الهريسة في أطباق أثناء احتفالات الأعراس التي تستمر لأيام”.

وبجملة عامية جميلة تضيف: “هريسة ناصر كانت شقرة وبتقرش قرش”، في إشارة إلى طراوتها، وتوقن السّيدة أنها لن تتذوق كتلك الهريسة أبداً.

وتعتبر الجدة أنّ مهنة صناعة الهريسة اليوم مقتصرة على الرّجال لأنهم “أكثر قدرة على بذل الجهد ولديهم الوقت الكافي”.

وتقول نساء طاعنات في السّن من النبك لنورث برس، إنّ “المكونات في السّابق كانت أرخص، لذا غلاء الحرب صعب صناعة الهريسة”.

تعديلات الذّوق

وبالطبع خضعت الهريسة في النبك كغيرها، لبعض التّعديلات حسب الصّانع، وقدرته على مواكبة ذوق الزّبون.

وعن ذلك يقول أحمد أبو علي (40 عاماً) وهو اسم مستعار لصانع هريسة في أحد الاستراحات، “لكل مهنة أسرارها، ولكل صنعة مبدعوها، وسر هريستنا بدقة كميات مكوناتها، الأمر الذي يرفع من جودتها”.

ويشير إلى المواد التي يستخدمها في عمله كالسميد والسكر والسّمن والقطر والفستق الحلبي والمبشور، والسّمن العربي بالرّغم من سعره الباهظ.

ويضيف: “حبة القمح السّورية مميزة، لأنها تعطي الحلويات الطراوة والقيمة الغذائية، فهي الأفضل لمثل هذا النّوع من العمل”. 

وكصانع، حاول مواكبة جميع الأذواق، والمحافظة على الخطوط العريضة للصناعة التي أسسها ناصر فخر الدّين، “أضفنا عليها القشطة والجوز واللوز والفستق”.

وبالنسبة لمن يعانون مرض السّكري، يقول “أبو علي” إنّ هناك هريسة “خاصة” لوضعهم، “هذه الحلويات هي سفيرة المدينة إلى العالم، لأن السّياح يستسيغون طعمها، ويشترونها بالكيلوغرامات”.

وبالرغم من ارتفاع الأسعار، يقول الرّجل إن “أبناء المُحافظات يحملون الكثير منها إلى مدنهم وقراهم”.

ويتراوح سعرها حسب المكونات المُضافة بين الـ 10 و25 ألف ليرة سورية للكيلو غرام الواحد، حسب مهند علي (40 عاماً) وهو محاسب في استراحة.

ويشير الرّجل إلى أنّ كلاً يشتري حسب مقدرته، “نبيعها بالكيلو أو الصّحن الصّغير الذي يحتوي ثلاث قطع، بما يقارب الألفي ليرة”.

نكهةٌ خاصة

وتصنع حنان السّيد (60 عاماً) وهو اسم مُستعار لإحدى سيدات النبك، الهريسة التي تعلمتها من والدتها، أسبوعياً، “تحتاج لساعة في الفرن حتى لا تحترق وست ساعات من التّخمير”.

وتصنع الهريسة بمزج الخميرة واللبن والسكر والسّميد، ثم ترك العجينة لمدة ثلاث ساعات وأكثر حتى تتخمر، وتدهن صينية الفرن بالسّمن البلدي، ووضع الخليط فيه مع مراعات أنّ لا يتجاوز سمكها السّنتمترين، وإضافة المكسرات، لتوضع في فرن مسخن مسبقاً بدرجة 180، حسب ربات منازل.

وتقدمها المرأة النبكية لضيوفها، ولصديقاتها في دمشق كهدية، وعلمتها لبناتها كما تفعل كل أمهات النبك، حسب ما تقول حنان.

ولا تحب السّيدة أي إضافات دارجة عليها كالقشطة وغيرها، فهي تعتبرها دخيلة على الهريسة الأصلية، حسبما تقول لنورث برس.

وأثناء وضعه لصينية الهريسة في الفرن على أحد استراحات الطّريق الدّولي، يقول عمر قاسم (50 عاماً) وهو اسم مُستعار لعامل في مهنة الهريسة، لنورث برس، إنّ هذه الحلويات تحتاج لتعادل القطر والسّمن العربي، “رغم تشابه المقادير، لكن لكلٍ نفسه الخاص”.

ويقصد أيهم محمد وهو طالب في جامعة دمشق من سكان دير الزّور، أحد الاستراحات ذهاباً وإياباً، ليحمل عشر كيلوغرامات من النّمورة النّبكية إلى أسرته، لأن “لها نكهة خاصة”، كما يقول.

إعداد: ذهب المحمد – تحرير: آيلا ريّان