ليست المرة الأولى التي تقصف فيها أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، لكنها المرة الأولى التي تقصف من خارج حدود العراق. سبق، أن قصفت مرات عدة، بطائرات مسيرة، وقذائف هاون، وصواريخ محلية، من قبل جماعات مسلحة محسوبة على الحشد الشعبي، لكنها المرة الأولى التي تقصف بصواريخ باليستيه بعيدة المدى، وبإجماع على أنها أطلقت من إيران، فلماذا استهدافها؟ ومن يقف وراء ذلك؟ وما هي الأهداف الحقيقية للقصف؟ وهل أربيل هي المستهدفة أم أنها تحولت إلى صندوق رسائل إقليمية ودولية في صراعات إيران الكثيرة؟.
الحجة الدائمة لقصف أربيل، هي استهداف الوجود الأميركي، لكن القصف هذه المرة، طال منشآت مدنية وإعلامية، فضلاً عن منازل وممتلكات للمواطنين، كما أنه جاء في توقيت حمل دلالات سياسية وأمنية ومحلية وإقليمية، ولعل من أهم دلالات التوقيت:
1- إن القصف جاء بعد أيام من إعلان إيران عن مقتل ضابطين من الحرس الثوري في قصف إسرائيلي لمنطقة قرب العاصمة السورية دمشق، وقد كان لافتاً إسراع وسائل إعلام إيرانية إلى الإعلان عن أن قصف أربيل استهدف قواعد إسرائيلية سرية في المبنى الجديد للقنصلية الأميركية في أربيل، وإذا كان المراد إيرانياً هنا، القول إن قصف أربيل جاء رداً على القصف الإسرائيلي لقواتها ومقارها في سوريا، فهذه رسالة بالغة الخطورة على إقليم كردستان العراق، إذ أنها تحوله إلى ساحة حرب عملياتية وأمنية أكبر من قدرة الإقليم والعراق معاً.
2- إن استهداف أربيل جاء بعد الإعلان عن توقف مفاوضات فيينا، بعد الحديث عن قرب التوصل إلى اتفاق نهائي بين إيران والدول الكبرى، وقد برر إعلان توقف المفاوضات لأسباب خارجية، وهو ما فسر بوجود ضغط روسي قوي على إيران بعد حملة العقوبات الغربية على روسيا بسبب حربها الجارية على أوكرانيا، إذ أن موسكو تريد ضمانات بأن علاقاتها التجارية مع إيران، ومشاريعها معها، لن تتأثرا بهذه العقوبات، فيما لا يستبعد محللون استغلال الجناح المتشدد في القيادة الإيرانية هذا التطور لإفشال مفاوضات فيينا، انطلاقاً من رفضه التوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة، وعزمه المضي في البرنامج النووي الإيراني حتى النهاية، بما في ذلك إنتاج أسلحة نووية، حيث اعتادت إيران على إرسال رسائل إلى الدول الإقليمية والكبرى عبر أذرعها، كما هو حال حزب الله في لبنان، والحوثيون في اليمن، وفصائل من الحشد الشعبي في العراق، وفي كل هذا تشكل أربيل صندوقاً بريداً، وعنواناً سياسياً، للاشتباك مع السياسة الأميركية من أجل دفعها إلى تقديم تنازلات في ملفات كثيرة.
3- منذ الانتخابات البرلمانية العراقية المبكرة، ومن ثم تعثر انتخاب رئيس للجمهورية، وصولاً إلى معضلة الاتفاق على رئيس وزراء جديد، تشعر إيران بخسارة سياسية كبيرة في العراق، على خلفية خسارة حلفائها في هذه الانتخابات، ولعل ما يعمق خسارتها، هو أن كل جهودها لترتيب الأمور بما يتوائم مع سياستها هناك فشلت حتى الآن، وهي في كل ذلك ترى في التوافق الثلاثي، بين الصدر والبارزاني والحلبوسي، عقبة كبرى في مواجهة جهودها، كما أنها ترى أن أربيل بسياستها، وتحالفها مع تركيا والولايات المتحدة، تعرقل هذه السياسة، وفي هذا السياق، كان لافتاً تغريدة مقتدى الصدر عندما غرد معلقاً على استهداف أربيل بالقول (أربيل تحت نيران الخسران والخذلان، وكأن الكرد ليسوا عراقيين) ولعل إشارته إلى الخسران كانت إشارة واضحة إلى تورط القوى التابعة لإيران أو الأخيرة نفسها في هذا القصف.
في الواقع، إذا صح التورط الإيراني في قصف أربيل، بغض النظر عن الأسباب والرسائل والأهداف، فإن ذلك يفتح الباب أمام تصعيد غير مسبوق في العراق والمنطقة عموما، فالتدخل الإيراني المباشر على هذا النحو، سيجر تركيا المتورطة أصلاً في قصف الإقليم بحجة محاربة حزب العمال الكردستاني إلى العمل كطرف داخلي في العراق، وهو ما يعني تقديم أسلحة ولاسيما طائرات مسيرة لحلفائها هناك، كما أن مثل هذا الأمر سينعكس على العلاقات مع دول الخليج العربي، خاصة أنه عقب قصف أربيل، أعلن عن تأجيل الجولة الخامسة من المحادثات الإيرانية ـ السعودية التي كانت مقررة في العراق في الأيام المقبلة، فيما الإعلان عن أن القصف استهدف مقراً سرياً للاستخبارات الإسرائيلية، يجعل من الإقليم ساحة مواجهة ساخنة بين الطرفين، وسيكون الإقليم المتضرر الأكبر منها، وكل ما سبق سيدفع بالعراق إلى الدخول في دوامة عنف غير مسبوق في المرحلة المقبلة.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما الذي ينبغي على أربيل أن تفعله في ظل نيران الرسائل والصراعات؟، من دون شك، الوقوف تحت النيران أو المشي في ظلها، يتطلب المزيد من عوامل القوة والحماية والحذر، وإذا كانت قوتها تكمن في ترتيب بيتها الكردي، تجنبا لما هو أخطر بسبب الانقسامات الجارية، ومحاولات البعض دفع هذه الانقسامات إلى حرب داخلية … فإن الحماية قد لا تكون بالاصطفاف هنا أو هناك، وإنما بسياسة تحفظها من أجندات القوى المتصارعة، تلك القوى التي تريد جعلها محطة أو أداة في صراعاتها الكبرى، فيما لأربيل تطلعاتها التي تتجاوز الإقليم إلى تقديم نموذج ممكن لحل مشكلات السلطة والدولة والتعايش بين الشعوب سواء في دولة واحدة أو عموم المنطقة حتى لو اختلفت المضامين والرؤى مع التجربة.