تبدو أمارات الحيرة واضحة على الرئيس التركي أردوغان فيما خص الغزو الروسي لأوكرانيا، ذلك أن تركيا لا تعرف إلى جانب من ينبغي لها أن تقف في صراع قسّم العالم إلى فريقين؛ فمن ناحية تكبّل عضوية تركيا في الناتو والعلاقات التجارية والعسكرية الممتازة مع أوكرانيا موقفها للاصطفاف خلف موسكو، فيما يشكّل حضور الأوراسيين والعلاقات التجارية والعسكرية مع موسكو المكافئ الفعلي لعلاقاتها مع كييف عائقاً دون التعاون بشكل فعلي مع الناتو، وهو ما دفع أردوغان لإطلاق موقفٍ ملتبس مما يجري، وإن بدا شديد البراغماتية بالقول “لن نبتعد عن روسيا أو أوكرانيا”، وهو ما يعبّر بوضوح عن هشاشة فكرة التحالفات الخارجية الأصيلة والمستدامة.
تمثّل العلاقة مع روسيا إحدى المسائل المثيرة للحساسية داخلياً، ذلك أن وجود جناحين داخل القوات المسلحة كان من القَسمات الواضحة داخل المؤسسة العسكرية، وقد عُرف الجناح الأول بالأطلسيين الموالين للناتو فيما الآخر يعرف بأنه يمثل الأفراد الأوراسيين، وقد شكّل انقلاب 12 آذار/مارس 1971 (انقلاب المذكّرة) أبرز لحظات إجهاز الأطلسيين على زملائهم، فيما يُلحظ في إفشال انقلاب 15 تموز/يوليو 2016 أنه جاء على يد الأوراسيين الذين قاموا بتصفية موالين للناتو.
ومع تبنّي أردوغان لما عُرف بـ”الأتاتوركية الخضراء” فإنه حظي بدعم أوسع من حزب الحركة القومية والأوراسيين المناهضين للغرب الموجودين داخل المؤسسة العسكرية وهو ما عزّز من السلطوية التي دمغت حكمه، وزاد من ذلك اعتماد أردوغان على دوغو برينتشك الذي يرأس حزب الوطن أو اليسار القومي المتعصّب للتوجّه الأوراسي خاصة في المرحلة التي شهدت إسقاط تركيا مقاتلة سوخوي 24 روسية أواخر عام 2015. فيما بعد أعلن برينتشك، بعد فشل الانقلاب، نهاية تركيا الأطلسية لأن “منظومة الأطلسي تعني تركيا منقسمة ومنظومة الأطلسي تعني تأسيس كردستان وهي إسرائيل ثانية”، وبطبيعة الحال شعر برينتشك بنجاح وصفته الروسية عندما بدأ بالاستشهاد بالدور الروسي في إفشال الانقلاب؛ فالرجل تجمعه علاقات وطيدة مع “فيلسوف البوتينية”، ألكسندر دوغين، وقد تباهى بأن دوغين أخطرَ مستشاري أردوغان بوجود حركة غير عادية داخل القوات المسلّحة قبل الانقلاب بيومين، وهي المعلومة التي أكّدها بن علي يلدرم بالقول إن “الدولة الروسية تلحظ نشاطاً غير معتاد داخل الجيش التركي”.
تنامت الوشائج والعلاقات العسكرية والتجارية بين أنقرة وموسكو ليبلغ حجم التجارة والاستثمارات خلال العام الفائت ما ينوف عن 36 مليار دولار، وبمعزل عن شراء منظومة الدفاع الروسي S-400، فإن اتفاقات ضخمة أخرى دخلت على الخط كالاتفاق على إنشاء مفاعلات نووية في تركيا، وإقامة خط أنابيب توركستريم.
الافتراق العظيم بين الأوراسيين الأتراك وروسيا وأردوغان كان على سياسة الأخير في سوريا، ذلك أن أردوغان تجنّب كل أشكال التطبيع مع نظام الأسد، وقد رأي الأوراسيون إمكانية أن يحلّ التطبيع معضلة تنامي الحضور الكردي الذي بالغوا في تصويره على أنه خطر تغذّيه سياسات واشنطن الرامية إلى تقسيم تركيا.
خلا احتكام أنقرة لتطبيق اتفاقية مونترو عام 1936، التي تمنح تركيا حقوقاً لتنظيم حركة المرور البحري عبر المضائق وإغلاقها أمام السفن الحربية للدول في حالة حرب، والسماح لسفن الدول المتحاربة بالعودة إلى قواعدها في البحر الأسود، فإن دعم أنقرة لحلفائها في الناتو بدا شديد التواضع، بل أنها أعلنت عبر وزير خارجيتها بأنها “لن تشارك في العقوبات ضد روسيا”.
كان أردوغان يتحرّك على الضفة الأوكرانية بالتوازي من علاقاته المتنامية مع روسيا. مطلع الشهر الماضي وقّع أردوغان مع نظيره الأوكراني، فلودومير زيلنسكي، صفقة الإنتاج المشترك للطائرات بدون طيار واتفاقية التجارة الحرة فيما بلغ حجم الاستثمار التركي في أوكرانيا العام الفائت 4.5 مليار دولار والتبادل التجاري 5 مليارات دولار، وبطبيعة الحال أسس الطرفان المجلس الاستراتيجي والذي تحتل شبه جزيرة القرم فيه جزءاً مركزياً لخطاب البلدين، فقد كانت شبه الجزيرة جزءاً من الإمبراطورية العثمانية حتى عام 1783 قبل أن تؤول أرضاً روسية، ومنذ العام 1954، أمست عائدة لأوكرانيا السوفيتية بعد أن ألحقها بها نيكيتا خروتشيف، وإذا كانت تركيا مسكونة بفكرة رعاية تتار القرم على اعتبارهم جزءاً من عالم تركي عريض، فإن أوكرانيا أيضاً تعتبر إخراج القرم من يدها تضييقاً عليها في البحر الأسود ومقدّمة لإثارة النزعات الإثنية في أوكرانيا.
مثّلت الطائرات المسيّرة التركية “بيرقدار” درة تاج العلاقة بين البلدين، فقد استثمرتها كييف في معاركها ضد الانفصاليين في الدونباس، فيما لم تبدِ موسكو بالغ اهتمام بهذه الشراكة العسكرية، وأما تصريحات أردوغان التي تقف إلى جانب كييف فلم تأخذها موسكو على محمل الجد أيضاً.
قد تفسّر السياسة التركية هذه استبعاد الرئيس الأميركي جو بايدن، لأردوغان من القمة بشأن أوكرانيا التي جرت هاتفياً مع قادة أوروبا وكندا واليابان، ولئن كانت تركيا تعتبر مثل هكذا استبعاد عملاً مسيئاً لعلاقة البلدين، فإنّ استبعادها هذه المرّة وفّر عليها الحرج أو تحمّل مسؤوليات تحالفاتها الأطلسية، لكنه إلى ذلك يعكس إبعاداً لتركيا السلطوية في المواجهة الأميركية وفريقها ضد روسيا التي باتت وفق الوصف الأميركي بأنّها قطب السلطوية إلى جانب الصين، يذهب صلاح الدين ديمرتاش إلى استبعادٍ آخر تمّ في وقت سابق لتركيا عندما نظّمت الولايات المتحدة مؤتمراً دولياً حول الديمقراطية في التاسع والعاشر من كانون الأول/ ديسمبر الماضي، بالقول “كان واضحاً أنّ الدول غير المدعوة مصنّفة ضمن الدول السلطوية، وأبرزها الصين وروسيا وتركيا.”
يبدو أن جوهر الحيرة التي تبدو أماراتها واضحة على السياسة التركية مرتبطة، في جزء منها، بنزوع العقل السلطوي للنظام التركي. وهو ما يقرّبها من العالم الصيني والروسي أو بتعبيره الأوراسي الفضفاض، فيما بقية جسد تركيا مشدود إلى حيث تقف واشنطن والناتو، وداخل هذه الازدواجية تزعم تركيا أنّها مع السلام وهي المتورّطة في حروب إقليمية، وأنها تنتهج الواقعية السياسة في الوقت الذي جلبت إلى السياسة كل ما هو عدوّ للواقعية، حيث يرفل الواقع بأساطير الأجداد وأمجادهم وتراثهم الإمبريالي.