روسيا الجريحة   

محمد سيد رصاص

هناك نصوص تفسر مرامي الفاعلين في الحدث السياسي، مثل كراس “موضوعات نيسان” للينين الذي كان أقرب إلى نص سيناريو لثورة أكتوبر 1917 بعد ستة أشهر، وبحالة مماثلة يمكن إدراج نص خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 21 شباط 2022، أي قبل ثلاثة أيام من حدوث الغزو الروسي لأوكرانية، وفي هذا الإطار يمكن القول بأن هذا الخطاب لا يعطي فقط  مرامي حدث 24 شباط 2022 أو حتى أسبابه بل يعطي صورة عن أيديولوجية وذهنية رجل يقوم الآن بهز العلاقات الدولية القائمة في فترة ما بعد الحرب الباردة وربما يستطيع قلبها باتجاه عالم متعدد الأقطاب.

هنا، نجد في خطاب بوتين رؤية قومية روسية للمكان حيث يعتبر أن “الاتحاد السوفياتي عام 1922 قد أقيم فوق مكان كان اسمه الامبراطورية الروسية”، من دون أن يتطرق لما هي الماهية القومية عند قوميات وإثنيات متعددة كانت تعيش ضمن مكان الدولة الروسية التي تبلورت وتشكلت بين عامي 1547 و1881 من تأسيسها مع إعلان إيفان الرهيب قيصراً وتحويلها لإمبراطورية من قبل بطرس الأكبر في 1721وصولاً لعملية ضم أراضي لها كان آخرها تركمانستان في عام 1881. في محل آخر من الخطاب يمكن أن نلمس عند بوتين رؤيته للقوميات والإثنيات الأخرى بأنها “روسية” عندما يقول، وهنا يقصد الأوكران الذين أعيد انضمامهم للدولة الروسية عام 1654 بعد أن كانوا جزءاً من الدولة الروسية الأولى التي قامت في كييف عام 862 ومن ثم دمرها المغول بفترة  1237-1240، بأن “الناس الذين كانوا يعيشون في الجنوب الغربي من ما كان يدعى بالأرض الروسية كانوا يقولون عن أنفسهم بأنهم روس ومسيحيون أرثوذكس، وهذا قبل القرن السابع عشر وبعده”. في محل آخر من الخطاب يتطرق بوتين إلى تأكيد روسية الساحلين الشماليين للبحر الأسود وبحر آزوف من خلال قوله بأن “المنطقة المذكورة كان اسمها (روسيا الجديدة – نوفوروسيا)” في زمن حكم الامبراطورة كاترينا الثانية 1762-1796 وهي منطقة تم تشكيلها إدارياً بعد أن نتجت عن الحرب التي ظفرت فيها روسيا بتلك الأراضي بعد هزيمة العثمانيين بما فيها شبه جزيرة القرم حيث تم آنذاك إنشاء مدن أوديسا وخيرسون وماريوبول واستوطن الروس فيها، فيما كانت القرم يسكنها المغول التتار.

هنا، يصل بوتين إلى الذروة الدرامية في سرديته التاريخية عندما يعتبر بأن لينين عند إعلان قيام الاتحاد السوفياتي في 30 كانون الأول 1922 وعبر وجود جمهورية أوكرانية السوفياتية فيه كان هو “صانع أوكرانية ومهندسها المعماري” في تأكيد ضمني من الرئيس الروسي على أن أوكرانيا هي دولة مصطنعة وأن هناك ثلاثة صانعين لها هم:

  1. لينين عندما أعطاها ساحلي البحر الأسود وآزوف وإقليم الدونباس (لوهانسك ودونيتسك) وشرق وغرب نهر الدينيبر في “اقتطاع ما كان تاريخياً أرض روسية من دون سؤال الملايين عن ماذا يريدون”.
  2. ستالين من خلال اقتطاع  أجزاء من أراضي بولندا والمجر ورومانية وضمها لأوكرانيا بعد معاهدة 1939مع الألمان.
  3. خروتشوف من خلال نقله لتبعية شبه جزيرة القرم من جمهورية روسيا السوفياتية إلى جمهورية أوكرانية السوفياتية في عام1954.

يمكن هنا في الخطاب، تلمس شيء آخر من النزعة القومية عند بوتين عندما ينتقد إصرار لينين وضد رأي قوميسار القوميات ستالين على النموذج الكونفيدرالي للاتحاد السوفياتي وعلى تضمين دستوره التأسيسي “حق تقرير المصير بما فيه حق الجمهوريات السوفياتية  في الانفصال”، وأن هذا كان “لغماً” انفجر في عام1991 وقاد لتفكك الاتحاد السوفياتي بعد أن قادت الأزمة الاقتصادية و”أزمة الاقتصاد الموجه في منتصف الثمانينيات لتقوية النزعة القومية المحلية” في عموم الاتحاد السوفياتي، وهو يقول في خطابه بأن “مبادىء1922هي ذات طابع خيالي وغير واقعي وهي مدمرة لأي دولة”، ثم يقوم بمدح ستالين عندما جعل كل هذا حبراً على ورق من خلال انتهاج النموذج المركزي في تركيز السلطات بيد المركز في موسكو

هنا، يمكن القول بأنه كان هناك تصورات عدة عن  الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، صنعها وشكلها الآخرون عنه، مثل الشيوعيون الذين اعتبر الكثير منهم أنه “استمرار للينين” مادام قد قال قبل سنوات بأن “انهيار الاتحاد السوفياتي كان كارثة”، وما دام قد لاحظ هؤلاء بأن الحزب الشيوعي الروسي يقوم بتأييد بوتين في سياسته نحو إعادة تقوية بلاده بطريق كان واضحاً بأنه سيقود إلى مجابهة مع الغرب الأميركي- الأوروبي، فيما كان كثيرون وخاصة عند العرب يعتبروه “مقاوماً” أو صديقاً وحليفاً لما يسمى “معسكر المقاومة والممانعة” التي يمده هؤلاء من بكين إلى طهران وحتى كاراكاس، فيما هناك صورة ثالثة يمكن أن يخمنها المرء عندما تكون زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا ماري لوبين من أشد المعجبين بالرئيس الروسي، وصورة رابعة عندما تكون الكنيسة الأرثوذكسية في موسكو، وهي حليفة الحكم القيصري والعدو الفكري للبلاشفة، من أشد الحلفاء المحليين للرئيس بوتين خلال فترة حكمه التي بدأت من رأس السنة في عام 2000.

في هذا الصدد، يمكن أن يجيب نص خطاب 21 شباط 2022 عن أين هو الموقع الأيديولوجي لبوتين، حيث نجده في موقع اليمين الروسي السلافي الأرثوذكسي الذي كان ما قبل ثورة أوكتوبر 1917، وهو يريد أن يعيد توحيد “الأرض الروسية” وليس ما كان يقوله شيوعيون عن أنه يريد “إحياء الاتحاد السوفياتي”.

يمكن لسير معارك الحرب التي تجري الآن أن تجيب من حيث أن  تحركات الجيش الروسي تتركز في إقليم الدونباس وفي ساحلي البحر الأسود وبحر آزوف وفي مجرى نهر الدنيبر من الشمال عند كييف وحتى خيرسون  جنوباً، ومن الواضح من مقابلة وزير الخارجية لافروف الأخيرة مع “الجزيرة” بأن موسكو لها مطالب جغرافية أبعد من الدونباس.

في هذا الصدد فإن نقد بوتين للينين لا يجب أخذه من موقع سياسي بل من موقع أيديولوجي قومي روسي موجه ضد شخص أقام دولة أممية وليس قومية عبر أيديولوجية ماركسية كانت على تضاد مع النزعة السلافية – الارثودكسية وهما عنصرا القومية الروسية التي تنتمي لدولة 1547التي قالت عن نفسها أنها “روما الثالثة” بعد سقوط “روما الثانية”، أي القسطنطينية بيد العثمانيين عام 1453، وسقوط “روما الأولى” عام476 بيد البرابرة، ولا تنتمي لنزعة التغريب التي بدأت مع بطرس الأكبر 1682-1725 تلك النزعة لأوروبا روسيا التي اعتبرت البلشفية ذروتها، وهنا يلاحظ كثرة استعمال كلمة (الغرب) عند الكثير من المسؤولين الروس وخاصة لافروف في طريقة تقول إنه هو (الآخر المضاد )، تماماً كما كان القوميون العروبيون يقصدون من استعمال تلك الكلمة.

بالنسبة للمحتوى السياسي لخطاب الرئيس بوتين فإن قوله بأن “حلف الأطلسي- الناتو لا يريد دولة كبيرة ومستقلة كروسيا بجواره” يعطي صورة عن أن خوف الروس من تمدد الناتو نحو أوكرانية، الموضوعة كخطط منذ عام 2008، هي مخاوف وجودية تتعلق بأن ذلك التمدد هدفه برأيهم تمزيق وتفكيك الاتحاد الروسي كما جرى مع الاتحاد السوفياتي، وليس فقط هي مخاوف سياسية أو عسكرية.

كتكثيف: إذا جمعنا ما قاله  زعيم الكرملين عن أخطار تمدد الناتو شرقاً مع ما قاله تجاه لينين، فإن هناك على ما يبدو إحساساً عند الرئيس فلاديمير بوتين بأن عملية تكوين الاتحاد السوفياتي قد طمست القومية الروسية وأن عملية تفككه قد قلصت مساحة روسيا الجغرافية إلى حدود أقل من مساحتها التي كانت قبل ثلاثة قرون عندما أعلن بطرس الأكبر الامبراطورية في عام 1721 وجعلتها أضعف مما كانت عليه  عندما أصبحت دولة كبرى بعد هزيمة نابليون بونابرت في غزوه لروسيا عام 1812 وأقل كثيراً عما كانت عندما أصبحت دولة عظمى في عام 1945 في عالم من الثنائية القطبية الأميركية- السوفياتية. كل هذا وذاك يعني أن هناك جرحاً في الكبرياء القومية الروسية يقوم بوتين بالتعبير عنه، وأن روسيا الجريحة هي التي تتصرف ما تتصرفه الآن من أجل حماية نفسها من التفكك ومن أجل استعادة مكانتها أو شيء من التي كانت لها في العلاقات الدولية، وأن ما جرى في يوم 24 شباط 2022هو تعبير عن انفجار هذا الجرح.