تتوجه أنظار العالم إلى العاصمة الأوكرانية كييف، وتحديداً إلى مدى صمودها في مواجهة الهجوم الروسي الكبير، ولعل الجميع يسأل هل ستسقط المدينة بيد جنود بوتين؟ ومتى؟ أم أن توقف الجنود الروس على مداخلها المحصنة ستكون بداية الهزيمة البوتينية الذي يراد الغرب له أن ينكفئ على الداخل الروسي، ودفن أحلامه الأمبراطورية هناك؟.
في الأساس، القضية الجوهرية للصراع ليست قضية المقاطعات في شرقي أوكرانيا، وأنما قضية صراع جيوسياسي وحضاري، بين روسيا والصين من جهة، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا والحلف الأطلسي من جهة ثانية، ولعل تفجر الأزمة بين كييف وموسكو، وتحولها إلى حرب روسية شاملة على أوكرانيا، لها علاقة بلحظتين استراتيجيتين:
الأولى: لحظة توجه أوكرانيا للانضمام إلى عضوية حلف الأطلسي وسط تشجيع وخطاب من الأخير بقرب ذلك.
والثانية: لها علاقة ببوادر ظهور تحالف روسي – صيني خلال القمة التي عقدت بين الرئيسين الصيني والروسي في بكين مطلع الشهر الماضي، تحت عنوان تعاون بلاد حدود، وهو ما لا يريده الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة التي ترى في هذا التحالف عقبة حقيقية في مواجهة استراتيجيتها تجاه الصين التي باتت تشكل أولوية قصوى في السياسة الأميركية.
وعليه، بتعبير آخر، الأزمة ليست محض روسية – أوكرانية بقدر ما هي أزمة ناتجة عن سوء إدارة الدول الكبرى لصراعاتها، وتطلعها إلى الهيمنة والسيطرة بحثا عن القطبية.
المسافة بين عواصم دول العالم وكييف، لا تقاس ببعد المسافة، وإنما بالحسابات والمصالح والتداعيات والأحلاف، وكل عاصمة تبني مقاربتها على هذا الأساس.
موسكو تريد من حربها إرغام كييف على التبعية، وجلبها إلى بيت الطاعة الروسي، وربما يحلم بوتين بالصلاة خلال عيد الفصح المقبل في كنيسة كييف لبعث الروح القومية الروسية في الأرثوذكسية.
واشنطن لا تريد لموسكو مثل هذا الانتصار، وإنما تريد إغراقها واستنزافها على أبواب المدن الأوكرانية، وصولاً إلى شل قدرتها على التحالف مع الصين.
أوروبا التي لها هواجس أمنية إزاء البوتينية السياسية ترى مخاطر جمة على أمنها إذ انتصر بوتين، وعليه استنفذت كل قوتها، واصطفت إلى الجانب الأميركي، باتخاذ سلسلة خطوات لتقييد الدب الروسي.
الحلف الأطلسي الذي يشكل واجهة عسكرية للغرب بشقيه الأميركي والأوروبي بدا يفيق من سباته، وفعل المادتين الرابعة والخامسة من مثياقه، استعداداً لمواجهة محتملة إذ تطلع الدب الروسي إلى أبعد من أوكرانيا أو توسيع رقعة الحرب لسبب ما.
الصين التي يجمعها العداء والهواجس مع روسيا للحلف الأطلسي يقف على أرضية صلبة، وتقرأ الحدث بهدوء استراتيجي، وفي كل ذلك تقيس المسافات بين العواصم المعنية بحثاً عن فوائد مرتجاة في مرحلة ما بعد توقف المدافع.
إيران التي لم تعد تسمع بالتصريحات الغربية عن فرصة أخيرة للحوار معها، ترى أنها أمام فرصة ذهبية، فبراغماتيتها المشهودة تراوح بين قوس تعزيز العلاقة مع روسيا إلى حد الشراكة الاستراتيجية وبين التطلع إلى أن تكون بديلاً لروسيا في مد أوروبا بالغاز إذ ظهر الدخان الأبيض في سماء مفاوضات فيينا.
تركيا العالقة بين علاقاتها الوثيقة مع روسيا البوتينية، وعضويتها في الحلف الأطلسي، تحرص على حفظ المسافة جيداً مع الطرفين، إذ أنها تدرك جيداً أن أي خطوة خارج الحسابات الدقيقة، قد تكلفها غالياً، فهي تدرك مدى قدرة الروس على توجيه ضربات كبرى لها في أماكن عدة، لاسيما في إدلب شمال غربي سوريا حيث الجماعات الإرهابية وعلى رأسها جبهة النصرة التي تعيش في الحضن التركي، كما أنها تدرك أن عضويتها في الأطلسي تشكل بطاقة ضمان لاستمرار دورها الإقليمي، وعليه تحرص على قياس المسافات بدقة كي لا تسقط على رأسها.
إسرائيل الحليف الوثيق للرئيس الأوكراني لا يختلف موقفها كثيراً عن موقف تركيا، فعلاقاتها التاريخية القوية بأوكرانيا لم تسعفها في الوقوف عملياً إلى جانبها في الميدان خوفاً من إغضاب الدب الروسي في الساحة السورية، لطالما أن القصف الإسرائيلي للمواقع الإيرانية وحزب الله في سوريا يمر عبر الردارات الروسية في حميميم.
وفي الحديث عن سوريا فإن دمشق وضعت كل بيضها في سلة بوتين بعد أن ربطت مصيرها به منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب.
عواصم العالم تقيس ساعتها على وقع ساعة كييف في لحظة المواجهة المباشرة مع المدفع الروسي، فيما كييف التي وقعت تحت السيطرة الروسية أكثر من مرة عبر التاريخ، تستميت لبقاء عقارب ساعتها تدور في ظل آلة الحرب الروسية كي لا تقع من جديد تحت قبضة موسكو، وتلك لحظة إن تحققت ستكون بداية النهاية للحقبة البوتينية بأحلامها القيصرية، إذ أن ارتداداتها على الداخل الروسي لن تكون أقل وطأة من لحظة انهيار الاتحاد السوفييتي قبل نحو ثلاثة عقود، وهي لحظة أميركية ليس المراد منها روسيا، بل الصين التي تقول مؤشرات التقارير إنها تستعد لوضع نهاية للقطبية الأميركية.