من الدلالات الكبيرة أن تنضم أوكرانيا إلى الدولة الروسية بعد ثورة شعبية في عام 1654 قادها القوزاق ضد دولة الكومنولث البولندية- الليتوانية التي كان يقودها النبلاء البولنديون، وأن يكون المطلب الرئيسي لتلك الثورة هو ذلك الانضمام للدولة الروسية، حيث هناك الروابط اللغوية – الثقافية والرابط السلافي والرابط الأرثوذكسي مع الروس فيما بولندا هي كاثوليكية منذ القرن العاشر، كما أن معاملة النبلاء البولنديين للأوكران كانت معاملة إقطاعيين لفلاحين.
هذا، كان له علاقة بشكل “ما” مع التاريخ المشترك لما أقيمت الدولة الروسية الأولى في كييف عام 862 قبل أن يدمرها المغول بالقرن الرابع عشر، ومن ثم تقام الدولة الروسية الثانية في عام 1547 مع إعلان (ايفان الرهيب) قيصراً، قبل أن يقوم بطرس الأكبر في عام 1721 بإعلان روسيا دولة إمبراطورية لها امتدادات جغرافية.
ولكن العلاقات بين الروس والأوكران لم تستمر طويلاً على وئام حيث بدأ الاتجاه إلى ترويس الإمبراطورية مع منع اللغة الأوكرانيا من التعليم في عام 1804 ومع منع الصحف ونشر الكتب باللغة الأوكرانيا عام 1876. هنا، إذا قارنا ذلك التاريخ بمحطتيه في عامي 862 و1654 مع ما جرى منذ الثورة البلشفية بعام 1917 ومع ما جرى بعد تفككك الاتحاد السوفياتي بعام 1991، فبالتأكيد سنجد مجرى معاكساً لذلك التاريخ، حيث أقيمت دولة أوكرانيا في نيسان 1918موالية للألمان ومعادية للبلاشفة وذلك بعد أن أجبر التقدم العسكري الألماني لينين على عقد معاهدة بريست- ليتوفسك التي تنازل فيها عن أراضي واسعة بالشرق من أجل ضمان عدم السقوط العسكري لبتروغراد وموسكو، وحتى بعد سقوط تلك الدولة الأوكرانيا بالشهر الأخير من عام 1918 بفعل هزيمة الألمان بالحرب العالمية الأولى فإن القوميين الأوكران قد تعاونوا في الحرب الأهلية 1917-1920 مع البيض المعادين للبلاشفة الحمر، وحتى بعد هزيمة البيض فإن القوميين الأوكران قد تعاونوا وهللوا أثناء الحرب البولندية الروسية 1920-1921 لاحتلال الجنرال البولندي بيلسودسكي لمدينة كييف، وقد تكرر هذا التعاون بعد الغزو النازي للاتحاد السوفياتي بصيف 1941 حيث تعاون القوميون الأوكران مع الألمان من خلال إنشاء قوات عسكرية متعاونة وإدارات متعاونة، كما شاركوا في عملية منظمة أدارها النازيون لنقل اليهود إلى معسكرات الاعتقال، وإن كان هنا يجب تسجيل أن الكثير من الشيوعيين الأوكران كانوا عماد المقاومة عبر حرب الأنصار للجيش السوفياتي في أوكرانيا المحتلة بفترة 1941-1944. ربما، هنا، كان هذا الشرخ بين الروس والأوكران الذي ظهر بفترة 1918-1920 قد توسع بفعل أن أوكرانيا، ذات الطابع الزراعي الفلاحي بخلاف روسيا الأكثر تصنيعاً منذ أيام القياصرة، قد تحملت الآلام الكبرى لعملية ستالين في التجميع القسري الزراعي بفترة 1929-1932 التي أجبر فيها ملايين الفلاحين على التخلي عن ملكياتهم الزراعية للانتظام في الكولخوزات وأجبر فيها ملايين الفلاحين على ترك الريف نحو المدن ليتحولوا إلى عمال صناعيين، كما أن مجاعة 1932-1933 في الشرق الأوكراني قد تسببت في موت 6-7 مليون، كما أن موت حوالي خمسة مليون أوكراني في الحرب العالمية الثانية، بخنادقهم المختلفة بين مقاوم للألمان ومتعاون، قد جعلتا أوكرانيا هي المنطقة الأكثر جرحاً بعموم الاتحاد السوفياتي.
في هذا الصدد، يمكن تفسير خطوة نيكيتا خروتشوف عام 1954، في الذكرى الثلاثمئة لانضمام الأوكران للدولة الروسية، بنقل تبعية شبه جزيرة القرم من جمهورية روسيا السوفياتية إلى جمهورية أوكرانيا السوفياتية والتي عللت آنذاك بأنها للتعبير عن “أخوة الشعبين”، على أنها دلالة على وعي وجود ذلك الشرخ الأوكراني- الروسي من قبل الأمين الأول للحزب الشيوعي السوفياتي الذي تولى منصبه بعد وفاة ستالين في عام 1953، وهو، أي خروتشوف، الذي كان مسؤول الحزب الشيوعي السوفياتي في جمهورية أوكرانيا منذ 1938وهو الذي قاد وواجه ووجًه المقاومة ضد الاحتلال النازي لأوكرانيا، وبالتأكيد قد تركت في نفس خروتشوف الكثير من الانطباعات والاستنتاجات عملية انقسام الأوكران العميقة بين متعاون مع الألمان ومقاوم لهم، وهو مالم يوجد بين الروس الذين حتى مليوكوف، زعيم حزب الكاديت الليبرالي الذي حارب البلاشفة بالحرب الأهلية ثم اختار المنفى بالغرب،قد أعلن عن تأييده لستالين في وجه الغزو النازي.
ولكن، ما ظهر بعد تفكك الاتحاد السوفياتي قد أثبت بأن جهد خروتشوف من خطوة القرم كان عبثاً في تجسير الشرخ الأوكراني- الروسي، بل وأن ما فعله قد أنشأ مشكلة كبرى بين روسيا وأوكرانيا انفجرت في عام 2014 وما زال دوي انفجارها يسمع عالياً في عام 2022.
من جهة أخرى، ورغم اعتراف روسيا بوريس يلتسين بالحدود القائمة بين الجمهوريات السوفياتية في يوم تفكيك الاتحاد السوفياتي في السادس عشر من كانون الأول 1991 ثم تأكيد روسيا في اتفاقية الثامن عشر من أيار 1997 على “احترام الحدود القائمة” بين الاتحاد الروسي وجمهورية أوكرانيا، فإن ما ظهر في “الثورة البرتقالية” الأوكرانيا عام 2004، ثم في الأزمة الأوكرانيا المشتعلة بفترة 2014-2022، يثبت بأن الميل الغالب في المجتمع الأكراني هو العداء مع الروس وهو ما يترافق مع ميل يسود غالبية الأوكرانيين نحو الغرب الأميركي- الأوروبي الشيء الذي يتمظهر بالميل نحو الانضمام لحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي.
هنا، لا يمكن تفسير خطوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2014 في ضم شبه جزيرة القرم وهو ما ترافق مع تشجيع الأقلية الروسية بالشرق الأوكراني على الانفصال عن سلطة كييف، بعد إسقاط الرئيس الأوكراني يانوكيفيتش الموالي لموسكو، سوى على أنها دليل على استيقاظ قومي روسي، يجتمع عليه القوميون الروس والكنيسة الأرثوذكسية والشيوعيون، اصطدم كقطار مع تيار ظهر منذ عام 1918 من القومية الأوكرانيا التي لم تستطع الشيوعية السوفياتية النجاح في تسكينها أو استيعابها. اصطدام موسكو وكييف أنشأ أكبر أزمة دولية بين الغرب الأميركي- الأوروبي وروسيا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، ولكن هذا بسبب أن لحظة 1654 لم تعد قائمة بين الأوكران والروس، وهو ما يتيح لواشنطن ومعها الأوروبيين المجال لمحاولة عزل روسيا عن أوروبا من خلال العازل الأوكراني.