لماذا العلمانية ضرورية لسوريا؟

عشر سنوات من الصراع المسلح في سوريا، كشفت كم كان المجتمع السوري هشاً، تسود فيه البنى الأهلية. اكثر من خمسة عقود من حكم حزب البعث القومي “العروبي” و”الاشتراكي”، لم يفعل شيئاً سوى المحافظة على التكوين الاجتماعي القائم على الهويات الأهلية الصغرى، وتعميقها وترسيخها. لذلك ما إن ضعفت القبضة الأمنية للاستبداد، التي تشكل اللاحم الأكبر لها، حتى خرجت تعبر عن وجودها، ودورها بكل وضوح، وقوة، وفعالية. إن القول بوجود هوية سورية جامعة متحققة وراسخة، خارج حدود المجال الايديولوجي مجرد وهم.

إن البحث الرصين في اسباب الأزمة الراهنة في سوريا، عداك عن البحث في خرائط طرق محتملة لتجاوزها، ينبغي ان يقر اولاً؛ بهشاشة النسيج الاجتماعي السوري، وأن الهويات الصغرى الدينية، والقبلية، والعشائرية، وحتى العائلية، لا تزال هي السائدة والفاعلة فيه.

ثانياً؛ عليه ان يقر بوجود تكامل وظيفي بين الاستبداد وهذه البنى الأهلية، فهو يرعاها ويحافظ عليها، وهي بدورها تؤمن له الخلفية الاجتماعية، التي تمده بعناصر قوته. وعليه فإن العقبة الكأداء التي تحول دون تجاوزها إلى الدولة الوطنية، والهوية الوطنية الجامعة، هو النظام الاستبدادي الشمولي و سلطة مركزية شديدة المحافظة.

ثالثاً؛ إن الأزمة الراهنة، وما نتج عنها من مآس، ودمار، وتهتك في النسيج الاجتماعي خلقت مصاعب لا تحصى أمام اعادة اللحمة للنسيج الاجتماعي، حتى على أساس البنى الأهلية، فكيف على أساس البنى الطبقية، والمهنية، الوطنية.

رابعاً؛ إذا كان الحال هو كذلك، فإن اعادة صهر البنى الأهلية لتشكيل هوية وطنية جامعة منها يحتاج إلى وقت، وإلى ظروف مناسبة، وإلى طرق واساليب مناسبة. من هذه الظروف والأساليب المناسبة الانتقال من المركزية الشمولية للسلطة، إلى اللامركزية، وتوزيع السلطات على الإدارات المحلية.

خامساً؛ ينبغي أن يكون واضحا أن الهدف ليس إلغاء وجود البنى الأهلية، والهويات الصغرى المطابقة لها، في غير سياقات اضمحلالها الطبيعية مع الزمن، بل الحد من دورها في الشأن العام، والانتقال التدريجي منها إلى تفعيل دور الهويات الطبقية، والمهنية، والسياسية الوطنية.

على افتراض أنه تم الانتقال إلى نظام ديمقراطي، تعددي، تداولي للسلطة بصورة سلمية، وهو الشرط الأول الضروري لفتح الطريق امام خلق هوية وطنية جامعة، فإن الشرط الثاني الضروري هو التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الشاملة، والمتوازنة. اما الشرط الثالث فهو اعادة النظر في تمركز السلطات، لإشراك السكان في ادارة شؤونهم الخاصة، في النماذج الأوربية للديمقراطية أدى الاقتصاد الدور الحاسم في صهر البنية المجتمعية، واعادة تشكيلها على أسس وطنية.

وفي ظروف بلدنا سوف يكون للاقتصاد دوره الحاسم أيضا، لكن ليس كمدخل، أو بداية إذ أن المدخل هنا هو مدخل سياسي بالضرورة، أي من خلال تغيير النظام السياسي الاستبدادي الحاكم إلى نظام ديمقراطي مناسب. وثمة في تجارب لبنان والعراق الديمقراطية عبر ودروس لمن يريد أن يعتبر.

إن أي نظام سياسي يقوم على الهويات الدينية، خصوصاً في البلدان التي يوجد فيها تعدد في الأديان، فهو على الضد من طبيعة الدولة الوطنية، ومن طبيعة الدين ذاته. فإدخال المقدس إلى السياسة يدمرها، يحولها إلى سياسة طوائف ومذاهب وفرق، كما إن ادخال السياسة إلى الدين تفقده قداسته، التي لا يكون دينا بدونها. وإذا كانت الأديان والطوائف والمذاهب هويات صغرى  ممتدة في الزمن وعابرة له، فلا يجوز أبدا التدخل في مجالها، بل حمايته لتبقى للمؤمنين بها حياتهم الروحية.

إن القوة التدخلية للدين وطوائفه ومذاهبه في السياسة، اي في شؤون الحياة الدنيوية تزداد في ظروف التخلف، وتتراجع لتصير هي ذاتها مجرد ظاهرة دعوية ارشادية فلكلورية في ظروف البلدان المتقدمة. وإذا كان للدين الاسلامي بعض الخصوصية في هذا المجال، بسبب تدخله المباشر في مناح كثيرة من حياة المؤمنين به، سواء عن طريق نصوص قرآنية واضحة، وغالباً عن طريق قراءات مختلفة لهذه النصوص(التفاسير الشرعية)، فهي خصوصية لا تلغي المبدأ الذي أشرنا إليه، بل تطالبه بزمن اطول لتصير كما يقتضي.

وقد يقصر هذا الزمن كثيراً في حال وجود نخب سياسية ودينية تنظر بواقعية في متطلبات العصر واحتياجاته، فتقرأ المقدس قراءة تاريخية، فتجتهد لتغيير تطبيق نصوصه واحكامه، ولها في التراث مساند كثيرة إن شاءت الاجتهاد. من هذا المنطلق ينبغي الاقرار بمبدأ حاكم لأي نظام سياسي منشود في سوريا، وهو ابعاد الدين عن السياسة، والسياسة عن الدين، وهذا لا يكون إلا من خلال العلمانية. فالعلمانية وحدها التي تضمن حياد الدولة ومؤسساتها عن الشؤون الخاصة بمعتقدات المواطنين الدينية، وغير الدينية، وما يطابقها من كيانات هوياتية.