أطلقت احتجاجات السويداء موجة من التكهّنات حول مآلات الأحداث، ذلك أن المحافظة باتت تغفو على احتمالات عديدة؛ كأن تتحوّل احتجاجاتها السلمية إلى أحداث دامية وهو احتمال مقترن بسلوك السلطة المركزية لا برغبة السكان، أو أن يستبدّ اليأس بالمحتجّين وتنفضّ الاحتجاجات لعدم جدواها أمام تعنّت النظام ولا مبالاته، أو أن تفضي الاحتجاجات إلى دفع النظام لتحمّل مسؤوليته الاجتماعية تجاه المحافظة التي تعيش تحت وطأة التهميش والفقر والفساد وبالتالي الانصياع إلى جزء من مطالب المحتجّين الخدميّة، فيما الاحتمالات الأضعف هي أن تتحوّل مطالب المحتجين إلى كرة ثلج تكبر لتشمل بقية المناطق السوريّة، أو أن تنزاح إلى حيث العسكرة وحمل السلاح.
ما يتحكّم في المشهد العام للاحتجاجات هو شكل من أشكال السياسة الواقعيّة وغير المنظّمة رغم الإيحاء بأن الاحتجاجات لا تطمح لأن تكون سياسية بمعنى أنها لا تهدف إلى القول بـ”إسقاط النظام” أو الاصطفاف خلف شعارات المعارضة ورفع رايتها؛ فالمتظاهرون ينتقون شعاراتهم بعناية ويحاذرون من استخدام الشعارات الراديكالية، وأبعد من ذلك فقد اختار المحتجّون رفع “البيرق” (علم الخمس حدود) وهو بيرق الدروز الذي يعكس رفعه دلالات شتّى من بينها أنّ المحتجين لا يرمون إلى أن يحسبوا على مقلب “المعارضة” على ما يؤمّنه هذا الاصطفاف من ذرائع للنظام وآلته العقابيّة المتحفّزة لمعالجة المطالبات الشعبيّة بلغة العسف والقسوة، فيما أمّن إشهار البيرق أيضاً، رفعاً لحرج آخر يتمثّل بعدم رفع علم النظام، ذلك أن الاحتجاجات التي رفعت شعار “الكرامة” لا يمكن أن تتظلّل بعلم من يسلبهم تلك الكرامة.
بيد أن المفارقة تكمن في أن المحتجّين يطمحون لاستعادة “الدولة” ويدعون لأن تقوم الدولة بوظائفها الطبيعيّة، وبذلك فهم لا يسعون إلى إلغائها مهما تبدّت بائسة ومعطّلة، فيما يتمنّع النظام عن التصرّف كدولة قادرة على تحمّل مسؤولياتها، أو قابلة لأن تتفهّم مطالب المحتجّين دون أن تلصق بهم تهم العمالة والتآمر.
تحتسب أصوات من داخل النظام الاحتجاجات مؤامرةً خارجيّة (أميركية وإسرائيليّة) وتشكّك في ولاء المحتجّين ووطنيّتهم، وهي طريقة هروب النظام الأثيرة من مواجهة أدنى المطالب الشعبيّة، ولا تشفع إلى ذلك شعارات المحتجّين ولافتاتهم التي تعلي من شأن هويّة المحتجّين السوريّة وانتمائهم الوطنيّ، ولا يغفل عن أحد أن دروز سوريا مسكونون بفكرتي العروبة ووحدة سوريا الترابيّة، بذا تأتي الدعوة إلى وقفة احتجاجية في القريا، أمام ضريح سلطان باشا الأطرش الجمعة القادمة، جزءاً من سياسة الرد الموضوعيّ على أهزوجة النظام، وأمّا الخطوات الرمزيّة التي يتّبعها المحتجّون فهي زاد الإبقاء على سلمية الحراك المدنيّ وردّاً على شبهات النظام في التآمر والعمالة.
كانت ثمّة أصوات درزيّة دعت في وقت لاحق إلى نيل السويداء حكماً ذاتياً “إدارة ذاتيّة” كتلك التي في شمال شرقي سوريا، غير أن الظروف الموضوعيّة والذاتية لم تساهم في إنضاج هذا الاتجاه، فالمحافظة شحيحة الموارد وقليلة السكّان، وفي متناول النظام نتيجة قربها من العاصمة، وقابلة لأن تطوّق وتحاصر في غياب معبر حدوديّ مع الجوار، بالإضافة إلى عدم توافر الظرف الذاتيّ المتمثّل بانقسام الأهالي، وغياب وجود حزبٍ يحظى بحضور تمثيلي، فضلاً عن صعوبة تشكيل مكافئ أمنيّ/عسكريّ لقوّات النظام يستطيع الذود عن المنطقة وحماية السكان، والأهم أن مثل هذه الدعوة قد تستحضر تهمة “الانفصال” وهو ما يشكّل أشد كوابيس الدروز حضوراً، وهي من التهم المكلفة التي طاولت كرد سوريا فيما يشبه عملية “تكفير وطني” لا تقل وطأة عن التكفير الدينيّ.
ولئن كان صحيحاً أن احتجاجات السويداء جاءت في وقتٍ فقد العالم شهية الحديث عن الأزمة السورية، فإن بقاء الأوضاع المعيشية الصعبة والتهميش والإفقار على ما هي عليها يعني استمرار وتيرة الاحتجاجات وربما تناميها، وقد يعني ذلك أن تستلهم مناطق سورية أخرى نموذج الاحتجاج في السويداء طالما أنّه لا يكلّفها دماً واعتقالات، ورغم التحشيد العسكري داخل وفي محيط المحافظة فإن النظام لا يسعى للانخراط في الخيار العسكري، والذي يبدو أنه لا يلقى غطاءً روسياً. ثم هل تدعو روسيا إلى التهدئة بدلالة زيارة الشيخ موفق طريف الرئيس الروحي للطائفة الدرزية في فلسطين إلى موسكو، والعلاقات التي تربط الزعماء الدروز في لبنان بروسيا؟ هذا فضلاً عن أن اعتماد النظام الخيار العنفيّ سيعني بالضرورة تهشيم الصورة التي ألصقت به بوصفه “حامي الأقلّيات”.
ثمة سيرة غير مكتملة لاحتجاجات السويداء التي ظنّ المتابعون أنّها توقّفت، وأما ما يجعلها سيرة مفتوحة على الكثير من الاحتمالات هو أن النظام لا يملك الموارد اللازمة لإنهاء الأزمة المتفاقمة في المحافظة، كما أنّه يفتقر إلى الذرائع اللازمة للاحتكام للعنف في مواجهة احتجاجات مدنيّة سلميّة تنتقي مفرداتها بعناية، فوق أن احتكام النظام للعنف سيبدّد ما تبقى له من رصيد اجتماعي في المحافظة، وفي المقابل لا يملك المحتجّون العودة دون تحقّق مطالبهم، أو جزء منها، فالأوضاع المعيشية تسير من سيىء إلى أسوأ وهو ما سيمنح الحقّ، إن لم نقل كل الحق، لمزاولة الاحتجاجات المشفوعة لاحقاً بدعم الزعماء الروحيين، والكتلة القلقة التي هي سواد أهل السويداء في هذه الأثناء.