أردوغان في الإمارات … امتحان التحول

خورشيد دلي

أردوغان في أبو ظبي، حدث ينبغي التوقف عنده ملياً، عشية الزيارة كتب أردوغان مقالاً، رسم فيه صورة وردية للعلاقات التركية – الإماراتية، مبشراً بصفحة جديدة بين البلدين، ومنطلقاً من التاريخ المشترك، والمصالح الكبيرة، والتطلعات المستقبلية، ما قاله أردوغان في مقالته، كرره بشكل أو أخر في تصريحاته خلال الزيارة، إذ تحدث بلغة الرجل المسؤول، الرجل الحريص، الرجل المدرك لأهمية العلاقات بين الدول وفق القانون الدولي، وفق المواثيق والاتفاقيات التي تنظم هذه العلاقات.

لغة لم يستخدمها أردوغان طوال السنوات الماضية تجاه الإمارات وغيرها من الدول العربية، لاسيما مصر والسعودية، فتصريحاته السابقة كانت نارية، هجومية، لاذعة، منتقدة، وصلت إلى حد توجيه أبشع الصفات لحكام هذه الدول، من وصفهم بزعماء البدو والقبائل، مروراً بإتهامهم بممارسة الاستبداد ضد شعوبهم، وصولاً إلى وصفهم بحكام الدول التي باعت القضية الفلسطينية، كل ذلك وفق لغة استعلائية عبرت عن نظرته السلطانية للدول العربية وشعوبها.

أسئلة كثيرة تطرح عن أسباب هذه اللغة الجديدة لأردوغان تجاه الدول العربية، هل هناك تحول حقيقي في سياسته تجاه هذه الدول؟ وهل هذا التحول استراتيجي أم تكيتكي؟ وهل تخلى أردوغان عن أيديولوجيته السابقة وسعيه لزعزعة استقرار الدول العربية من بوابة الإسلام السياسي وتحديدا جماعة الإخوان المسلمين؟ وهل هناك أسباب داخلية تركية تدفعه إلى إنتهاج هذا السلوك السياسي الملتبس؟

في الواقع، إذا كان معروفاً عن أردوغان إنه رجل التحالفات والانقلابات معاً، فإن أجوبة الأسئلة السابقة تشكل مساراً واختباراً لمصداقية سياسته التي تشي بالتحولات المحتملة، وهو إختبار لا بد أن يشمل الجذور السياسية التي انطلق منها أردوغان في المراهنة على مشروعه الإقليمي الهادف إلى جعل تركيا دولة مركزية مهيمنة على المنطقة، حيث راهن على تحقيق هذا المشروع عبر مسارات عدة، لعل أهمها:                                  

 1 – استخدام جماعات الإسلام السياسي مجدداً في سياسته الخارجية تجاه الدول العربية، إذ راهن على هذه الجماعات في تغيير البنية السياسية والاجتماعية لهذه الدول، كما حصل في مصر وتونس وليبيا وسوريا وغيرها من الدول التي تدخل أردوغان في شؤونها الداخلية.         

2- سياسة التدخلات العسكرية المباشرة في عدد من الدول العربية، على رأسها سوريا وليبيا والعراق، حيث تحتل قواته مناطق واسعة من هذه الدول، سواء بشكل مباشر أو من خلال الجماعات المسلحة التي تحولت إلى أذرع له في تنفيذ أجندته على الأرض.         

3- توظيف قدرات تركيا، وموقعها، وعلاقاتها في جلب مواقف دولية، وتحديداً روسية وأميركية لصالح سياسته الإقليمية، وقد تجلى هذا الأمر بشكل واضح في سوريا، وتحديدا في عفرين التي إحتلتها قواته بموافقة روسية وصمت أمريكي.                                                       

هذه المحددات التي كانت محملة بأحلام السيطرة، ومشاريع الطاقة، والنفوذ والهيمنة، اصطدمت على الأرض بثورة الشعب المصري في يونيو / حزيران عام 2013، فهو الذي وصف هذه الثورة بالإنقلاب الدموي، مؤكداً مراراً أنه لن يعترف بحكم السيسي، رافعاً شعار رابعة، مشهرا دعمه للإخوان المسلمين، وجاعلا من تركيا مقرا لهم، ومركزا لنشاطهم في استهداف بلدانهم وشعوبهم وحكوماتهم، ناشراً الإرهاب من سيناء المصرية، إلى طرابلس الليبية، وليس انتهاء بشمال سوريا وشرقها، وعندما وجد أن كل ما سبق وصل إلى طريق مسدود، وإستنزف إقتصاده في الداخل، وأنه بحاجة ماسة إلى سياسة جديدة تنقذه من الإنزلاق إلى الهاوية على وقع إنهيار سعر الليرة التركية أمام الدولار، وارتفاع أسعار المواد الأساسية، لم يجد أمامه سواء الإنقلاب على نفسه، وانتهاج خطاب جديد.

وهكذا بدأت رسائل الغزل تنهال على مصر والإمارات والسعودية، وبات يتحدث بلغة المصالح المشتركة، ويؤكد على أهمية العلاقة التاريخية بين الشعبين التركي والعربي، في كشف للأسباب الحقيقية التي تقف وراء التحولات التركية الجارية، وهي تحولات لا تبدو نهائية أو استراتيجية، لطالما أن أردوغان يندفع إلى ذلك تحت وطأة أزماته المتعددة، ويستمر في إحتلاله المباشر لشمال سوريا وشرقها، ويستميت من أجل الحفاظ على مصالحه الاحتلالية في ليبيا، ويحتفظ بورقة الإخوان للمستقبل ولا يضع نهاية لها، ولعل بوصلته الأساسية في كل ما سبق، هو تهيئة الظروف للبقاء في السلطة مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية، حيث تشير استطلاعات الراي إلى تراجع كبير في شعبيته، وشعبية حزبه، وتحالفه مع حزب الحركة القومية المتطرفة بزعامة دولت باهجلي، مقابل ارتفاع كبير في شعبية أحزاب المعارضة التي تسعى إلى توحيد صفوفها، والاتفاق على برنامج سياسي موحد، لمواجهة أردوغان في الانتخابات المقبلة.   

في الواقع، إختيار أردوغان الإمارات لزيارتها في ظل التحسن الجاري في العلاقات بين البلدين خلال الفترة الأخيرة، لم يكن تعبيراً عن تخليه عن سياسته الإقليمية السابقة، بقدر ما كان تعبيرا عن إحساسه بأهمية الإمارات لإيجاد منفس لإزماته المتعددة، إذ أن أردوغان أمام تفاقم أزماته في الداخل، يحس بخسارة إقليمية مع توقيع عدد من الدول العربية، على رأسها الإمارات اتفاقيات سلام مع إسرائيل، كما أنه يحس بأن خسارته ستكون مضاعفة إذا توصلت الولايات المتحدة وإيران إلى اتفاق نووي جديد، فضلاً عن أن التحالفات التي رسمت في المتوسط من أجل الطاقة تجعل من تركيا دولة مهمشة ومعزولة، وستكون خسارته أكبر إذا ما أسفرت تطورات الأزمة الأوكرانية والحرب الإعلامية المستعرة بين الغرب وروسيا بسببها، عن تجميد مشروع ترك ستريم أو ما يعرف بالسيل التركي لنقل الغاز من روسيا إلى أوروبا عبر تركيا.

وأمام كل هذه التطورات الدراماتيكية المحملة بالتغييرات الإقليمية والدولية، وجد أردوغان أن توقيت زيارته الإمارات يحمل معه الكثير من الآمال الاقتصادية والسياسية، لاسيما بعد أن ضخت الإمارات عشر مليارات دولار في السوق التركية تحت عنوان الاستثمار، كما أن القصف الحوثي للإمارات خلق الانطباع لديه بحاجة الأخيرة إلى معادل سياسي إقليمي يواجه الدور الإيراني الداعم للحوثي وتهديده المتواصل للسعودية والإمارات. معطيات وتطورات عرف أردوغان كيف يوظفها في التوقيت المناسب من أجل زيادة رصيده في الداخل التركي والمنطقة العربية.                                             

من دون شك، لا أحد ضد العلاقات الجيدة، والمصالح المشتركة، والدعائم السلمية بين الدول والشعوب، لكن ما يحصل على جبهة الإندفاع التركي نحو الإمارات والسعودية ومصر، لايبدو قائما على الأسس السابقة، بدليل أن الثقة مازالت مفقودة من قبل مصر والسعودية وحتى إسرائيل تجاه الإندفاع التركي، كما أن الريبة تشكل السمة الأساسية لنظرة القاهرة والرياض تجاه ما تقول تركيا إنها تجري تحولات في سياستها، ولعل لسان الجميع يقول نريد أفعالاً لا أقوال، نريد ترجمة حقيقية للتحولات لا تكتيكات سياسية مدفوعة بعامل خروج أردوغان من أزماته المتعددة للبقاء في السلطة.