أبعد من مقتل قرداش

يذهب المثل الشعبيّ إلى وصف المكان الأمثل لاختباء اللّص الحاذق خلال تواريه عن الأنظار بأنه ” فوق سقف المخفر”، بما هو المكان الذي لا تخمّنه الشرطة مخبأً  يأوي “الحرامي الشاطر”، بالمعنى نفسه كان زعيمي تنظيم داعش المقتولَين، أبو بكر البغدادي وخليفته عبدالله قرداش، قد تواريا عن الأنظار فوق “سقف الناتو”، أي في “الجيب” التركي داخل سوريا، في الريف الشمالي لمحافظة إدلب.

فمن مخبأيهما حرّك زعيما داعش خلايا التنظيم واختارا بنوك الأهداف بعناية؛ فالتنظيم بوصفه شديد المركزيّة لا يفرد مساحة للارتجال أو لتقدير أمراء القواطع أو التصرّف كتنظيم لامركزي قبل وبعد تواري زعيميه، والارتجال قد يعني تهاوي التنظيم نتيجة افتضاح أمر عناصره وانكشاف مخابئهم، كما أن الارتجال يضعف التنسيق بين الخلايا لا سيما في العمليات الإرهابية الكبيرة، فوق أنّه قد يؤدّي إلى تشظّي التنظيم وظهور أجسام تنظيمية متفرّعة عن التنظيم لا تأتمر بإمرته، وهو ما يعني حصول صراعات داخلية تؤذن بأفول التنظيم، بيد أن المركزيّة أيضاً لا تعني إلغاء الهوامش المسموح بها لمزاولة بعض الأعمال الإرهابيّة التي تبيح تصرّف عناصر التنظيم كذئاب منفردة.

وتكمن أهمية مكان اختباء زعماء التنظيم الإرهابي في الجيب التركي داخل سوريا بأنّه ساهم  في تثبيط جهود دحر الإرهاب عبر منح زعماء التنظيم مساحة آمنة للتواصل مع بقية التنظيم والتخطيط للأعمال الإرهابية. غير أن التركيز الأمريكي انصبّ على عمليتي قتل البغدادي وقرداش وحسب، دون أن تشيح واشنطن بنظرها إلى السؤال الكبير وهو: كيف وصل زعيما التنظيم إلى منطقة تتبع لحليفها التركيّ؟  ودون أن تلقي شيئاً عن المسؤولية السياسية أو “الأخلاقيّة” على أنقرة التي يفترض أنها جزء من الناتو وبوصفها مخفره المتقدّم في المنطقة، والمتدخّلة في سوريا بذريعة “مكافحة الإرهاب”.

 وبطبيعة الحال ثمّة تقارير تتحدّث عن استبدال عناصر التنظيم لثيابهم وانخراطهم في مليشيات “الجيش الوطني” المحسوبة على تركيا، وتقارير أخرى تتحدّث عن نجاح بعض العناصر الفارّة من سجن الصناعة بالحسكة في الوصول إلى مناطق ما يسمّى “نبع السلام” (رأس العين/سرى كانيه) المحكومة تركياً.

أما احتفاء الرئيسين الأمريكيين، دونالد ترامب وجو بايدن، بإجهاز إدارة كل منهما على زعيمٍ للتنظيم، بوصف كل متزعمٍ منهما المطلوب رقم واحد عالمياً، قابله شرح مسهب لتفاصيل العملية وتغنٍّ بدقّتها وسلامة منفّذيها وشكرٍ صريح للمساعدات التي أفضت إلى نجاح العمليتين، كما في حالة شكر قوات سوريا الديمقراطية في المرّتين، غير أنّ ما لم يشر إليه الرئيسان كان الأسباب التي دفعت هذين المطلوبين إلى التواري حيث يجب أن لا يكونا، أي بجوار النقاط التركية أو لنقل تحت مرأى الأتراك ومسامعهم، كما لم يشر إعلاني الرئيسين إلى الجهات التي قدّمت لزعيمي داعش المساعدة اللوجستية وأفسحت لهما المجال لمزاولة أعمالهما الإرهابية، هذا إن لم نقل الجهات التي أمّنت لهما الحماية، خاصّة وأن العمليتين تمّتا خلال حملة تعقّب استمرّت لأسابيع.

الحفاوة الأمريكية عقب العمليتين بدت دعائيّة محضة وموجّهة للناخب الأمريكي، فترامب المهووس بالكاميرات واللقطة الإعلامية، قلّص وهو يحتفي بعد مقتل أبي بكر البغدادي من تمويل عملية مكافحة داعش، وترك حلفاءه المحليين دون الدعم المطلوب على صعيد القوّات المشاركة في الحرب على الإرهاب والموارد المخصّصة، فيما بدا بايدن أقرب لسلفه وهو يعلن عن مقتل عبدالله قرداش وعن عزمه المضيّ في طريق مكافحة الإرهاب بعد أن هزّت طريقة انسحابه من أفغانستان صورته، وكان بايدن بحاجة للرد على من ظن أنه تراجع عمّا يمكن تسميته “الوعد الامريكي” بملاحقة الإرهابيين، على اعتبار أن مكافحة الإرهاب ومنذ الحقبة الترامبية تحوّل إلى ملفّ ثانويّ قياساً إلى ملفات بدت أشدّ حضوراً وأهمية لا سيما ملفي روسيا وأوكرانيا، والصين وتايوان.

والغالب على الظن أن تعاطي التحالف الدولي، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، لن يتبدّل بشكل كبير رغم عملية/غزوة سجن الصناعة بالحسكة، وفرط النشاط الإرهابي الذي يبديه داعش في الأرجاء، ومعنى ذلك أن الاهتمام لن يكون على مستوى التطوّرات الأخيرة، وستكتفي واشنطن في التعامل مع ملف داعش وفق عقلية الاحتواء وليس الاجتثاث، إذ يتطلّب اجتثاث داعش العمل على عدّة مستويات أوّلها الوصول إلى عملية سياسيّة تفضي إلى وقف التدهور الأمني والاقتصادي والمعاشي في سوريا، وثانيها تقوية مركز الحكومة المحليّة (الإدارة الذاتية) عبر إشراكها في العملية السياسية والاعتراف بنظامها الإداري كطرفٍ سوريّ، أما المستوى الثالث هو التحوّط لعمليات داعش المقبلة عبر زيادة الدعم لقوات سوريا الديمقراطية وهو ما يتطلّب من جهة أخرى إبطال الحرب التركية المستمرّة على المنطقة.

من المهم أن تبدي واشنطن شيئاً من الصرامة والجدية تجاه الأطراف والدول والقوى التي تقدّم نسغ الحياة لداعش عبر السماح لقياداتها وعناصرها بالتواجد في مناطق معيّنة، هذا الأمر يدخل في صلب عملية مكافحة الإرهاب. وإذا كانت المجاهرة وإلقاء المسؤولية مكلفة سياسياً ودبلوماسياً، فإن الأكثر كلفة هو أن تستفيد داعش من حدّة الاستقطاب والتناقض في المنطقة بين تركيا وكرد سوريا، فمن هذه الشقوق تنفذ داعش وتزاول عملها.

في هذه الغضون يستكمل تنظيم داعش عمله التنظيمي بعد مقتل زعيمه قرداش، وقد يزيد من كتمانه لجهة إعلان اسم “الخليفة” الجديد، وهو التدبير المتوقّع، وأما المعضلة الحقيقية فقد باتت تتعدّى تعيين زعيم التنظيم الجديد أو الإعلان عن اسمه طالما أن التنظيم تحوّل إلى مؤسسة “تفريخ الخلفاء”، وهو تفريخ إلى ما لا نهاية، أو لنقل تفريخ إلى أن يتم الإجهاز على التنظيم بشكل مبرم.