121.. الحياة ممكنة

قلما خرجت مدن شمال سوريا الشرقيّ في تشييع جثامين شهدائها بهذا العدد المهول، عشرات الآلاف خرجت خلال اليومين الماضيين في الحسكة والقامشلي وكوباني وديرك وعامودا لتشييع 121 شهيداً، وأما ما كان بادياً من حزن ومهابة وإكبار فإنه لم يكن صنيعة آلة دعائية، أو موظّفين عموميين أو طلبة مدارس طُلب إليهم الخروج في التشييع، هذه المرّة على وجه الخصوص تحكمّ الوجدان الشعبي بالمشهد برمته.

ولئن كانت الأحداث الجسام والملمّات هي القماشة التي تصنع منها “الوطنية” ومنها ينطلق التضامن الحُر الذي يلف البلاد ويعمّها ويعلن لأجلها الحداد وتنكّس الأعلام، فإننا في ظل هذا التخارج السوري الكبير والتحاجز بين مناطق شكّلتها الحرب الأهلية نشهد صورة أخرى لموت الوطنية السورية، إذ إن الحرب جعلت من “شهيد” في مكان ما عدوّاً في مكان آخر.

على العكس من التضامن مع مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية “قسد” وأجهزة الإدارة الذاتية الأمنية واستبسالهما في مقارعة خلايا تنظيم “داعش” وما رافقها من احتمالات تفلّش الأوضاع الأمنية، أظهر النظام وكذا طيف واسع من المعارضين شماتة وسخرية فجّة وتطيّروا من إمكانية هزيمة قوات سوريا الديمقراطية على يد التنظيم، وبلغ الانفعال درجة تسمية قناة تلفزيونية سورية موالية لتركيا أحداث سجن الصناعة (غويران) بأنها “ملحمة غويران” رغم تلطّي القناة فيما بعد بحقها في السخرية حيث أن العنوان ومحتوى المادّة الإعلامية ما كانا سوى “سخرية”، وهو عذر أقبح من ذنب، ذلك أن السخرية في حدث كهذا ليس إلّا خسّة ونيلاً من الضحايا واصطفافاً إلى جانب القتلة من جانب قناة اتخذت لنفسها شعاراً مسليّاً “لكل السوريين إلّا القتلة”، فيما وصف إعلام النظام بعض أنشطة “داعش” وهي تهاجم نقاط قسد في ريفي دير الزور والرقة بأنّها “جيوب مقاومة وطنية”، ناهيك عن اشتراك إعلام الطرفين بوصف الحدث الدامي بـ”المسرحية”.

في إزاء ذلك قدّم التحالف الدولي مساعدته لعودة الأوضاع واحتواء الموقف والتضييق على فارّي “داعش” وخلاياه المتمترسة في محيط السجن وكذلك كرّر التحالف موقفه المتمثّل بدعم قسد، غير أن دور التحالف بدا مريباً لجهة إبقائه على منطقه المقتصر على مقارعة “داعش” كهدف وحيد من تواجده في المنطقة دون السعي لحماية ظهر حلفائه من الضربات التركية المتتالية؛ فخلال الانهماك في مرحلة إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه في الحسكة، كانت المدفعية التركية تدكّ قرى ونقاط تمركز قسد في ريف تل تمر وزركان وعين عيسى، فكان لزاماً على قسد خوض معركتين في آن واحد، ويذكّر سلوك التحالف هذا بما حصل في عفرين إبان معركة احتلالها حين كانت قسد تقارع “داعش” بضراوة فيما كانت تقاتل في الوقت عينه الجيش التركي ومليشيات “الجيش السوري الحر”، وقد كان التبرير الأميركي آنذاك أن عفرين خارج نطاق التحالف القائم على أساس محاربة “داعش”، وليتكرّر الأمر في رأس العين/ سري كانيه وتل أبيض مع شن تركيا عدوانها على هاتين المنطقتين وإن اختلفت الحجّة الأميركية لحظتئذ وبررت تواطئها مع تركيا الذي قالت إنه مبنيّ على فكرة مفادها احتواء الحليف التركي الغاضب.

في الأثناء، وفيما قسد تضمّد جراحها وتواري شهداء معركتها الأخيرة الثرى، انبرى الطيران الحربي التركي لقصف محطة كهرباء وأخرى للنفط بريف ديرك/المالكية، وهو سلوك تركيّ مفهوم تريد أنقرة من خلاله القول إن قسد لم تنتصر طالما أنّنا نملك حق قصف قسد والمدنيين الذين تحت حمايتها، فيما اعتبرت قسد القصف التركي “ثأراً لهزيمة داعش”، وفي المحصّلة ثمة رغبة تركية في تعكير صفو انتصار قسد وثمة إلى ذلك كراهية لمظاهر الالتفاف الشعبيّ حول الشهداء، ولكن الأسى يكمن في أن تسمح قوّات التحالف باستخدام تركيا الطيران الحربيّ والمسيّر لضرب قسد ومدنيي شمال شرقي سوريا والمنشآت، وهو ما دفع الأخيرة للخروج ببيان غاضبٍ صادر عن مكتبها الإعلامي يعتبر أن ما حصل كان بـ”علم التحالف الدولي”. ولئن كانت قسد قد سجّلت سابقة في بيانها الأخير بوضعها اللوم على قوات التحالف، فإننا قد نسير باتجاه علاقة أكثر مكاشفة، لكنها قد لا تخدم قسد، رغم صدقها، بالنظر إلى خريطة التحالفات والقوى المعادية للإدارة الذاتية، ليصبح السؤال هل طغت اللحظة العاطفية على تفكير قسد، أم أنّ المجاهرة بتواطؤ التحالف قد تأتي بنتائج أفضل لتحول دون عربدة تركيا؟ ومما لا شكّ فيه أن وضع اللوم على قوات التحالف كان قد جرى داخل الغرف المغلقة قبل أن ينسحب الأمر إلى العلن هذه المرّة.

لكن وبالعودة إلى سيرة التشييع المهيب، وعلى عكس مواقف السوريين في مقلبي النظام والمعارضة، حمل الالتفاف الشعبيّ معانٍ عديدة، أوّلها الحزن والتقدير لتضحية 121 شهيداً حالوا دون انتشار “داعش” ونجحوا في تحييد قرابة 380 “داعشيّاً” وأعادوا مئات الفارّين إلى زنازينهم، وثانيها الثقة بالنفس والمراهنة على القوّات المحلّية التي تستطيع حماية الشعب من الإرهاب مهما حاول تجميع قواه أو حظي بدعمٍ إعلاميّ، وثالثها تكذيب المهجوسين بوصف تضحية قسد بأنّها “مسرحيّة” وأنّها معركة محسومة النتائج.

تضحية 121 مقاتلاً ومقاتلة بأرواحهم لأجل هزيمة “داعش” وحماية المدنيين قالت شيئاً بدا جليّاً ومفاده أن الحياة ممكنة على هذه البقعة القلقة من العالم، رغماً عن إرهاب “داعش” ورغم هجمات تركيا وقسوة الظروف.