نظام لا يجيد سوى الانحطاط (2)

منذر خدام

في المقالة السابقة توقفنا عند أهمية الموقع الجغرافي لسورية في أي عملية نهضوية. نتابع في هذه المقالة أهمية العوامل الأخرى للتنمية والتقدم والازدهار، اعني رأس المال والسكان والإدارة.

بالنسبة لرأس المال فهو فائض لغيرنا شحيح علينا، إنه قوة تقدم وازدهار لغيرنا، وعبء علينا من خلال ما يخلقه من وهم الثراء ودعة الحياة. أتحدث عن حجم الأموال السورية التي تم تهريبها إلى الخارج خلال فترة حكم حافظ الأسد، والتي تصل إلى نحو 135 مليار دولار بحسب الاقتصادي المصري البارز رمزي زكي، هذا عداك عن الأموال التي هربت خلال فترة حكم بشار الأسد والتي تسارع تهريباً إلى الخارج وتعاظم كثيراً خلال سنوات الأزمة.

 ورغم بلاغة الدرس الواجب تعلمه من هذه الحالة لجهة الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي بما يخدم مصالح الشعب بدلا من تهريبها إلى الخارج، فإن من يملكون الأموال لا يزالون مستمرين بالنهج ذاته.

 أضف إلى ذلك فإن رؤوس الأموال العربية كان من الممكن جذبها للاستثمار في سورية بخلق بيئة استثمارية ملائمة تقوم أساسا على نهج سياسي مختلف. بالطبع لا أحد يطلب أن تتبرع الدول العربية الغنية بأموالها صدقة زكاة عن رؤوس أموالها لسوريا بل الاستثمار فيها، أو في الحد الأدنى فتح بلدانها لعمالتها لتحل محل العمالة الأجنبية.

ثمة درس تقدمه العديد من البلدان في مجال جذب رؤوس الأموال والاستثمار فيها، مثل ماليزيا وسنغافورا وغيرها، يتعلق بالتنمية البشرية وتحديداً بالتعليم، أي بخلق قوة عاملة متعلمة ومعدة مهنياً، فهي وحدها كفيلة بجذب الاستثمارات الدولية. هنا يجري الحديث عن السكان ودورهم في التنمية.

بالنسبة للسكان الذين يمثلون العنصر الأهم في أية عملية نهضوية، لأنهم العنصر الحي الوحيد بينها، وبصفته هذه فهو الذي يتفاعل مع العناصر الأخرى بكيفيات مختلفة، بعضها يصنع التقدم وبعضها الأخر يصنع التخلف. بالنسبة لنا في سوريا وكما هو واضح على الأقل من خلال تجربة العقود الماضية أننا ننجز الانحطاط بدلا من التقدم. إن من ينظر في تقارير التنافسية العالمية التي تصدر عن منتدى دافوس في سويسرا، أو في تقارير التنافسية العربية لسوف يندهش لمواقعنا المتخلفة جدا بين الشعوب، بل سوف يندهش لسرعة تنميتنا للتخلف.

 لقد خرجنا من نطاق تصنيفنا كدول من العالم الثالث، إلى دول من العالم الرابع والخامس. وهذا كله حصل قبل تفجر الأزمة في سوريا، أما اليوم ونتيجة للأزمة فقد خرجت سوريا من التاريخ او تكاد.

لقد تحول السوريون من كونهم قوة للتقدم ورافعة من روافعه إلى عبء عليه، فالمؤشرات النوعية تؤكد ذلك بصورة بليغة جداً. فإذا كان المواطن الأوربي يقرأ في السنة نحو 35 كتاباً، ويقرأ الإسرائيلي نحو 40 كتابا، فإن كل 80 مواطناً عربياً يقرؤون كتاباً واحداً في السنة. هذا يعني بكلام آخر أن ثقافة الأوربي تعادل ثقافة 2800 مواطنا عربيا، وان ثقافة إسرائيلي واحد تعادل ثقافة 3200 مواطنا عربيا.

من جهة أخرى فإن مساهمة العرب مجتمعين في البحوث العلمية العالمية الأصيلة أقل من 5%، في حين تتجاوز مساهمة إسرائيل لوحدها نسبة 6%. إن شعباً من الجهلة والأميين لا يصنع تقدما بل انحطاط.

أما بالنسبة للإدارة التي تمثل الجانب الفاعل في العناصر الأخرى، فهي التي تتولى تحديد كيفية تفاعلها واتجاه هذا التفاعل. والإدارة المقصودة هنا هي إدارة الدولة والمجتمع وبالتحديد المستوى السياسي منها. في هذا المستوى يتخذ القرار بصناعة التقدم أو التخلف بوعي أو بغيره لا فرق. ثمة مقولة فلسفية تحوز على مصداقية كبيرة مفادها: عندما يتقدم المجتمع أو يتخلف فابحث عن السبب في المستوى السياسي وتحديدا في طبيعة النخب السياسة الفاعلة فيه وطبيعة نظام الحكم.

الاستبداد إذا هو المسؤول الأول عن تخلفنا وانحطاطنا كشعب ودولة، والاستبداد السوري، إذا صحت التسمية، هو من نوع خاص ليس فقط لأنه يصادر الحياة السياسية لمصلحة الفرد، بل ويصادر الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لمصلحة تأبيد سلطة هذا الفرد. وإذا احتاج الأمر فهو جاهز لكي ينعش ما في تاريخ المنطقة من مقدسات ليضفيها على زعامته.

 النظام الاستبدادي السوري يختلف كثيرا عن الأنظمة الدكتاتورية التي سادت في دول مختلفة في أوربا وأسيا وأمريكا اللاتينية، وحتى في دول أفريقيا جنوب الصحراء، في جانب جوهري على الأقل هو أن النظام الدكتاتوري لديه قوانين يعمل بموجبها، حريص على تطبيقها في الدولة والمجتمع حتى على حاشيته، وهو يهدف بصورة رئيسة إلى بناء الدولة القوية حتى ولو تقمص هذا الهدف صورة الزعيم.

 بطبيعة الحال الأنظمة الدكتاتورية لا تستطيع ولا تملك قوة استمرار صنع التقدم كما تفعل الأنظمة الديمقراطية لأن هذه الأخيرة تتميز بمرونة عالية وبإمكانية تصحيح مساراتها في حال الأزمة. أضف إلى ذلك فإن ما تتسبب به الأنظمة  الدكتاتورية من أزمات هي من طبيعة الأزمات التطورية وليس الأزمات الكارثية التي تتسبب بها الأنظمة الاستبدادية التي تؤدي في النهاية إلى سقوطها، او إلى سقوط شعبها كما هو حاصل اليوم في سوريا.