لا يمكن وضع هجوم تنظيم داعش “الإرهابي” على سجن الصناعة في الحسكة شمال شرقي سوريا حيث يتواجد فيه قرابة خمسة آلاف معتقل داعشي، في إطار النظريات التي تتحدث عن عودة التنظيم بعد هزيمته التاريخية في الباغوز قبل نحو ثلاث سنوات، ومن ثم مقتل زعيمه أبو بكر البغدادي، فما جرى كان أشبه بتحرك أمني مدروس في إطار أجندات إقليمية لضرب الوضع الأمني، وبث الفوضى في مناطق شمال شرقي سوريا الواقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وهنا تتوجه الأنظار إلى الأطراف المعنية بخلخلة الوضع الأمني والسياسي هناك ودفعه إلى الإنهيار، وكذلك تتوجه الأنظار إلى الأطراف التي تتحمل مسؤولية بقاء عناصر وتجمعات “داعش” قنابل موقوتة تهدد أمن واستقرار سوريا وعموم المنطقة، وهنا يبرز الدور الجديد لـ”داعش”، أي الدور الوظيفي الذي يخدم أجندة دول بعينها، لتحقيق أهداف محددة، بعد أن فشلت في تحقيق ذلك عسكرياً لأسباب كثيرة. وعليه، فإن السؤال الأساسي هنا، يتعلق بالأطراف والمسؤوليات، إذ في سياق ما حصل ينبغي النظر إلى:
1- فور هجوم “داعش” على سجن الصناعة في الحسكة، مستخدماً السيارات المتفجرة أولاً، قبل أن يبدأ بمحاولة اقتحام السجن للسيطرة عليه والإفراج عن المعتقلين ثانياً، بدت ثمة حركة منسجمة مع هذا الهجوم من الجانب التركي، وقد تجلى ذلك بشكل واضح في التصعيد التركي الكبير ضد عدد من مناطق في شمال شرقي سوريا، لاسيما في عين عيسى وتل تمر وغيرها من المناطق، وبالتزامن مع التصعيد التركي هذا، بدت ثمة حركة غير طبيعية للمرتزقة والإعلام التابعين لتركيا، ملخصها إظهار الوضع في شمال شرقي سوريا وكأنه يتجه نحو الانهيار والإيحاء بالتدخل العسكري البري، وهو ما يوحي بعلاقة مدبرة لتركيا بالهجوم بغية استغلاله لأجندتها، بعد أن فشلت سابقا في القيام بعملية عسكرية لاحتلال مناطق جديدة في شمال شرقي سوريا بسبب الرفض الأميركي والروسي لذلك.
2- إن مخرجات اجتماع أستانا الأخير الذي عقد قبل نحو شهر، وضع كل ما يجري في شمال شرقي سوريا في خانة الإرهاب والتطرف والانفصال، دون أي إشارة إلى أهمية الحوار لإطلاق عملية سياسية هناك، بغية وضع الأزمة السورية على سكة الحل، وهو ما وجه الأنظار إلى النهج العسكري والأمني الذي تعتمده الدول المشاركة في هذا الاجتماع (تركيا – روسيا – إيران) في التعامل مع هذه المنطقة ولو عبر تنظيمات وجماعات مسلحة وإرهابية من بينها “داعش”، وربما وجد الأخير في كل ما سبق فرصة أمل لإثبات ذاته على الأرض من جديد، واللافت إن كل ما جرى ترافق مع فرض حصار مطبق على مناطق شمال شرقي سوريا.
3 – خطورة وجود “داعش” في غربي الفرات على شرقي الفرات وعموم سوريا، إذ أن استمرار وجود “داعش” في مناطق واسعة من البادية السورية وصولاً إلى الحدود العراقية، يكشف عن مدى محدودية محاربة التنظيم في هذه المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والقوات المساندة لها، أي روسيا وإيران، إذ أن استمرار هذا الوجود يهدد قوات الجيش السوري نفسه من جهة، ومن جهة ثانية يبقي مشروع “داعش” قائماً وقابلاً للعودة في أي وقت تحت وطأة الظروف الأمنية التي تعيشها سوريا، فليس هناك أي طرف يستطيع الزعم بأنه يستطيع التحكم بخطر “داعش” أو اللعب بورقته ضد الأطرف الأخرى حتى النهاية، خاصة وأن التنظيم بعد فقدانه المركزية والعمل كخلايا محلية في ولايات، يعمل لصالح أجندة الدول المتورطة في الأزمة السورية، حيث التضارب والتناقض في المصالح والاستراتيجيات والمشاريع.
4 – إن مسؤولية استمرار تجمعات “داعش” على هذ النحو الخطر، سواء في السجون أو المخيمات (الهول) الواقعة تحت سيطرة قسد، تتحمله إلى حد كبير الدول المشاركة في التحالف الدولي للحرب ضد “داعش”، وبالدرجة الأولى الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، فهذه الدول بدت وكأنها تتهرب من قضية محاكمة هؤلاء “الدواعش” أمام محاكم دولية، وترفض إعادتهم إلى بلدانهم الأصلية، كما أنها بدت متراخية في إدراك خطرهم، وما يتطلب ذلك من دعم تقني ومالي ولوجسيتي واستخباراتي لقوات قسد من أجل التعامل مع هذا الخطر الداهم الذي وصفه كثيرون بالقنابل الموقوتة التي يمكن أن تتفجر بطريقة دراماتيكية في أي وقت، ولعل أغرب ما أثار انتباهي في هذا الصدد، ما نشره أحد قادة ما يسمي بالجيش الحر، عندما كتب على صفحته على الفيس: تحرك خمسة آلاف داعشي في سجن الحسكة، ماذا لو تحرك عشرة آلاف منهم في مخيم الهول؟ وكأنه ينتظر تحول هجوم الحسكة إلى هجوم شامل على عموم مناطق المحافظة وشرقي الفرات!.
5- إن ما جرى في سجن الصناعة بالحسكة، ومن قبله في عدد من السجون الأخرى، يكشف عدم نجاعة أو كفاية الأساليب التي تعتمدها قسد في التعامل مع هذا الخطر المتنامي، وهنا ثمة أسئلة كثيرة عن حالات فساد وتورط لعناصر أمنية في شبكات التهريب مقابل المال وإلا كيف يمكن تفسير وجود هواتف بيد عناصر داعش المعتقلين داخل السجون؟ وألا يشكل مثل هذا الأمر اختراقاً كبيراً خاصة وأنه يؤمن التواصل بين عناصر “داعش” خارج السجون وداخلها؟ وفي الاستفسارات أيضا، ماذا عن نجاعة الأساليب المعتمدة في الإفراج عن عناصر من “داعش” لأسباب لها علاقة بالمصالحات الاجتماعية ودور وجهاء العشائر؟
بحثا عن استراتيجية جديدة
من دون شك، ما بعد الهجوم على سجن الحسكة يجب أن يكون مختلفا عن ما سبق وإلا فإن الخطر سيتعاظم، إذ أن ما جرى أوحى للتنظيم ومشغليه بإمكانية قلب الأوضاع لصالح أجندة الدول المتورطة في الأزمة السورية، وعليه المطلوب أولاً وأخيراً استراتيجية جديدة للتعامل مع بقاء جيوب التنظيم في سوريا والعراق والمنطقة عموماً، استراتيجية تقوم على تكثيف الحرب على التنظيم، ومكافحة انتشار نفوذه، وهو ما يتطلب برامج تنفيذية، كي تكون الخطوات المقبلة فعالة وتحقق أهدافها، ومثل هذه الخطوات تتطلب استمرار التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في الحرب ضد “داعش” أولاً، وزيادة الدعم العسكري والأمني للقوى المتواجدة على الأرض ولاسيما قسد التي أثبتت قدرة فائقة على محاربة التنظيم خلال السنوات الماضية، وتأسيس ما يشبه بنك معلومات عالمي عن “داعش” وخطر خلاياه المتنقلة والحية وليست النائمة كما يقال، خاصة في ضوء التقارير التي تؤكد انضمام عشرات من هذه العناصر إلى فصائل ما يسمى بالجيش الوطني برعاية استخباراتية تركية، والأهم من كل هذا المباشرة بإجراءات وخطوات قضائية وقانونية للتعامل مع مخلفات “داعش”، لأن من دون كل ذلك، ستبقى الحواضن الاجتماعية والفكرية للتنظيم فاعلة في عدد من المناطق والمخيمات لاسيما في ظل غياب الحل السلمي للأزمة السورية، ومن دون كل ما سبق أيضا، سيبقى خطر “داعش” ماثلاً في المرحلة المقبلة، ومدخلاً للدول الإقليمية للاستثمار فيه، حتى النهاية لتحقيق أجنداتها.