أربع سنوات وآلام الاجتياح التركي لا تزال عالقة في أذهان نازحي عفرين
ريف حلب – نورث برس
يتأمل أمين محمد وهو نازح من مركز ناحية جنديرس بريف عفرين صورة طفله جيكرخون ويتذكر، بينما يحاول منع نفسه من البكاء، كل التفاصيل والمشاهد التي لا تزال عالقة في ذهنه أثناء رؤية فلذة كبده وهو يفارق الحياة.
لم يكن يوماً عادياً لا لـ”محمد” ولا لسكان حارته. في ذلك اليوم فقد البعض منازلهم التي تضررت وتدمرت بفعل القصف، فيما أصيب أشخاص بجروح، لكن خسارة الرجل الخمسيني كانت الأكبر حيث فقد جيكرخون الذي كان يبلغ من العمر (16 عاماً) آنذاك.
كان ذلك في اليوم الثالث للهجمات التركية برفقة فصائل المعارضة المسلحة الموالية لها على عفرين وكانت الساعة تشير إلى الحادية عشر صباحاً حينما سقطت قذيفة مدفعية تركية على البناية التي يسكنها “محمد”.
يقول الوالد المفجوع (53 عاماً) إن طفله كان واقفاً أمام مدخل البناية مع جاره، “أشرت له للدخول إلى المنزل لأن القذائف كانت تنهال على جنديرس لكنه بقي هناك، سقطت قذيفة فتمددنا على الأرض ورأيت جاري قد أصيب”.
بينما كان “محمد” يحاول ربط جرح جاره لوقف نزيفه والاتصال بسيارة الإسعاف لنقله إلى المشفى بعد أن أصيب بشظية، “صرخ علي جاري بالقول ابنك فارق الحياة”.
يذكر الأب تفاصيل الحادثة، وصوته يملأه البكاء، ويقول بلهجته المحلية: “الحديث عن تلك اللحظة يؤلمني كثيراً، ليس شيئاً يسهل سرده، عندما رأيت طفلي جثة هامدة ممددة على الأرض، أصابني الجمود من هول الصدمة، لم أستطع فعل شيء، كان قد أصيب بشظية في صدره وفارق الحياة”.
“العدو بلا رحمة”
ويصادف العشرين من كانون الثاني/ يناير من عام 2018، قيام القوات التركية برفقة فصائل المعارضة المسلحة الموالية لها بشن هجوم بري وجوي على عفرين، تحت ذريعة طرد الجماعات “الإرهابية” وحماية أمنها القومي.
لكن القصف المدفعي والجوي، حينها، والذي لم يتوقف على مدار 58 يوماً، تسبب بمقتل 498 مدنيّاً وإصابة أكثر من 696 آخرين منهم 303 أطفال و213 امرأة، وفقاً لما وثقته منظمات ومراكز حقوقية تنشط في شمال شرقي سوريا وريف حلب الشمالي.
كما أدى الاجتياح التركي لتهجير أكثر من 300 ألف مدني من المنطقة، بحسب إحصائية الإدارة الذاتية لإقليم عفرين العاملة حالياً بريف حلب الشمالي.
وتوزع قسم من النازحين في مخيمات العودة وعفرين وبرخدان وسردم وشهبا، بينما توزع آخرون على 42 قرية وبلدة بريف حلب الشمالي.
في حين فضلت عائلات أخرى العيش في مدن وبلدات سورية أخرى، لا سيما التي تديرها الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، وهاجر آخرون لخارج البلاد.
ويسكن “محمد” حالياً مع عائلته في منزل صغير بقرية الأحداث بريف حلب الشمالي، بعدما ترك أثناء نزوحه منزله في جنديرس وممتلكاته وأراضيه.
ويضيف: “كل منا أخذ نصيبه من هذه الحرب، العدو بلا رحمة”، في إشارة منه إلى القوات التركية والفصائل الموالية لها.
حاول الرجل الخميسيني بعد فاجعته، مساعدة الجرحى جراء القصف التركي ونقلهم برفقة الفرق الطبية إلى النقاط الطبية وكان من بين الذين نقلوا جثامين المدنيين الذين قضوا في مجزرة حي المحمودية بمدينة عفرين إلى ريف حلب الشمالي.
يقول: “عندما رأيت أشلاء نساء وأطفال وكبار سن وبكاء وصراخ النساء في حي المحمودية، نسيت ألمي ومصيبتي”.
وفي السادس عشر من آذار/ مارس من العام ذاته، قصفت القوات التركية حي المحمودية بمدينة عفرين وأسفر عن فقدان أكثر من 20 مدنياً لحياتهم وإصابة نحو 43 آخرين بجروح متفاوتة.
ولحدة القصف، لم يستطع ذوو الضحايا دفن الجثامين في عفرين ليتم إخراجها إلى قرية أحرص بريف حلب الشمالي ودفنهم هناك.
“الله ينتقم منهم”
ويتشارك عبدالله كنو (55 عاماً) نفس الألم مع سابقه لكنه يرى أن فاجعته كانت أكبر، إذ فقد 11 فرداً من عائلته بينهم أطفال.
وينحدر “كنو” من قرية كشتعار بريف حلب الشمالي وكان قد نزح منها إلى قرية كوبلة التابعة لناحية شيراوا جنوب عفرين عام 2013، هرباً من المعارك والهجمات التي دارت بين فصائل المعارضة المسلحة والقوات الحكومية آنذاك.
يقول الرجل إنه لم يكن يعلم أن ويلات الحرب ومصائبها ستلاحقه إلى عفرين وأن في انتظاره فاجعة ستترك في ذاكرته ندوباً لا تُمحى طوال حياته.
وفي الثامن عشر من شباط/ فبراير 2018، قصفت طائرة تركية المنزل الذي كانت عائلة “كنو” تسكنه وأودة بحياة سبعة من أبنائه وزوجتيه وزوجة ابنه وحفيده الذي كان يبلغ من العمر خمسة أشهر، بالإضافة إلى دمار منزله وسيارته ونفوق ماشيته.
يتذكر “كنو” بألم لحظات القصف وما زال كسابقه يتذكر كل التفاصيل، “كانت الساعة تشير إلى الثانية عشر ظهراً، كان الجو صحواً، الأطفال كانوا يلعبوا أمام المنزل والملابس كانت على حبل الغسيل”.
“لكن فجأة تدمر كل شيء وأصبحوا أشلاء على الأرض من شدة القصف”.
أصيب “كنو” بشظايا في كافة أنحاء جسده ونتيجة إصابته البليغة وفقدانه لوعيه، لم يستطع أن يحضر مراسم دفن عائلته التي أقيمت من قبل كوادر طبية في بلدة دير جمال على عجل بسبب استمرار القصف آنذاك.
عاش “كنو” أياماً بالغة الصعوبة لوحده بعد فقدانه معظم أفراد عائلته ونزح هو الآخر نتيجة القصف التركي وسيطرته فيما بعد على عفرين إلى بلدة فافين بريف حلب الشمالي.
يقول: “فقدت كل شيء، فقدت عائلتي وأولادي، الله ينتقم منهم”.