سمعنا في الحياة العامة بالنفخ في الحليب وحتى بالنفخ في اللبن، اليوم مع عقد الجولة الأولى من المحادثات التركية – الأرمينية في العاصمة الروسية موسكو، بدأنا أمام ما يمكن تسميته بالنفخ في التاريخ، ذلك التاريخ القائم على المجازر والقتل والتهجير.. حتى بات مصطلح الإبادة الأرمنية سمة من سمات العلاقة بين تركيا وأرمينيا، وهو ما يطرح السؤال الجوهري عن أسباب توجه أنقرة وأرمينيا إلى تطبيع العلاقات بينهما بعد عقود من العداء والحروب؟ في الواقع، ثمة من يرجع هذا التوجه إلى ثلاثة أسباب رئيسية، وهي:
1- نتائج الحرب الأخيرة بين أرمينيا وأذربيجان والتي انتهت بهزيمة قاسية لأرمينيا، إذ يرى المتابعون أن تداعيات هذه الحرب أزالت الرفض الأذري للتطبيع بين يريفان وأنقرة، خاصة وأن أذربيجان استعادت معظم مناطق إقليم قره باغ التي تعدها جزءاً من أراضيها، كما أن هذه النتائج رسخت من قناعة أرمينية بصعوبة إن لم نقل استحالة استعادة هذه المناطق بسبب فارق القوة لصالح أذربيجان، والدعم التركي الكبير لباكو، وتخلي موسكو عن موقفها التقليدي الداعم لأرمينيا في الصراع مع أذربيجان.
2- حجم المصالح المشتركة، فعملية التطبيع بين أنقرة ويريفان أخذت شكل البحث عن خريطة طريق لمصالح جيوسياسية بدلاً من مصالحة التاريخ أولاً، والقضية هنا لا تتعلق بالعلاقات الثنائية بين تركيا وأرمينيا، بل تتعلق بطرح مجموعة مصالح اقتصادية وتجارية تحكمها الجغرافية، إذ من شأن التطبيع بينهما إطلاق جملة مشاريع في مجال النقل والطرق والسكك والتجارة ..، مشاريع ضخمة تربط تركيا مع دول آسيا الوسطى عبر أرمينيا، من شأنها تغير خريطة معابر النقل والتنقل في جنوب القوقاز، وتسهل التجارة ليس بين تركيا وجمهوريات آسيا الوسطى فحسب، بل بين الصين وأوروبا ( طريق الحرير )، وبلغة الأرقام فإن من شأن تنفيذ هذه المشاريع استدرار ملايين الدولارات إن لم نقل المليارات للدول المشتركة في هذه المشاريع.
3- إن أرمينيا في عهد نيكول باشينيان تعاني من أزمات داخلية كبيرة، فحكومته ذات الميول الغربية لا تحظى بدعم روسي، واقتصاده الضعيف يكاد ينهار جراء فقدان مقومات الاستمرار وإغلاق الحدود من قبل تركيا، ولعله أمام هذه المعادلة الصعبة يجد في التطبيع مع تركيا وفتح الحدود المغلقة معها وتدفق التجارة والاستثمارات والخبرة التركية الصناعية والزراعية التركية إلى بلاده، مدخلاً لإنعاش الاقتصاد الذي من دونه سيبقى وضعه في الداخل مخلاً وقابلاً للإشتعال، خاصة أن المدرسة التقليدية في السياسة الأرمنية التي تقف وراءها المؤسسة العسكرية الأرمينية تحمله مسؤولية الأوضاع الصعبة في البلاد والهزيمه في الحرب الأخيرة مع أذربيجان.
أمام هذه المغريات المنتظرة من تطبيع العلاقات التركية – الأرمنية، هناك عقبات كثيرة لا تعد ولا تحصى، وهي عقبات لها علاقة بالعوامل القومية والسياسية من جهة، ومن جهة ثانية بالعوامل الإقليمية والدولية، فعلى المستوى القومي والسياسي يعرف الجميع حجم العداء التاريخي بين أرمينيا وتركيا، خاصة أن أرمينيا انتهجت طوال العقود الماضية سياسة جلب الاعتراف الدولي بالإبادة الأرمينية لتجريم تركيا عن المجازر التي ارتكبت وتحميلها المسؤولية القانونية عن ذلك، والسؤال هنا، هل يمكن لأرمينيا أن تتخلى عن قضية الإبادة مقابل مصالح محددة مرتجاة من عملية التطبيع مع تركيا كما يسعى أردوغان؟ وإذا تخلت أرمينيا الرسمية عن قضية الإبادة، هل يمكن للدياسبورا الأرمنية في الخارج أن توافق على ذلك؟ سؤال ربما من المبكر الإجابة عنه، إذ أن الإجابة عن هذا السؤال تتوقف على نتائج المباحثات التركية – الأرمينية، لاسيما سبق وأن شهدت البلدان محادثات مماثلة بين عامي 2008 و 2009، ورغم التوصل إلى اتفاق وقتها، عرف باتفاق زيوريخ للمصالحة بينهما إلا أن المحادثات في النهاية فشلت في تطبيع العلاقات بين البلدين. وإذا كان الاعتقاد باستحالة موافقة الدياسبورا على التخلي عن قضية الإبادة الأرمنية خاصة وأن اللوبيات الأرمنية في الخارج أنشأت من أجلها، وقد حققت نجاحات كبيرة في هذا المجال، كما أنها بنجاحاتها هذه أنتجت جوانب قانونية تتجاوز الموقف الأرمني إلى مواقف الدول التي اعترفت بالإبادة الأرمنية، وهي دول زاد عددها عن ثلاثين دولة وعشرات المنظمات الإقليمية والدولية، وهو ما يعني أن قضية التخلي عن الإبادة الأرمنية لن تكون قضية سهلة من الجوانب القانونية والسياسية.
بالتأكيد لا عداء إلى ما لا نهاية بين الدول والشعوب، لكن في الوقت نفسه لا يمكن دفن التاريخ الحي من خلال النفخ فيه من أجل مصالح هي في طور التبلور والتصورات، فكل شيء في العقل السياسي التركي يوحي بحضور المشهد الدموي الذي اتسمت به السياسة التركية طوال العقود الماضية، إذ أن فصوله مستمرة وبأساليب لا تقل بشاعة عن الأساليب التي استخدمت ضد الأرمن مطلع القرن الماضي، وعليه التصريحات التركية – الأرمنية الإيجابية المتبادلة، والحديث عن مفاوضات دون شروط مسبقة، قد لا تعبر عن حقيقة أهمية العامل التاريخ وحجم العداء المشترك بين الجانبين، وعليه النفخ في التاريخ لا يستوي مع الحقائق التاريخية الكامنة في العلاقات التركية – الأرمنية التي هي بحاجة إلى مصالحة تاريخية عبر اتفاق بشأن الإبادة الأرمنية أولاً بدلاً من القفز فوقها على وهج المصالح التجارية والاقتصادية، فالتخلي عن قضية الإبادة مقابل التطبيع، يعني بالنسبة للأرمن التخلي عن الهوية التاريخية، فيما ترى تركيا أن مرحلة ما بعد المصالحة مع أرمينيا هي مرحلة تحقيق المشروع القومي التركي في آسيا الوسطى، ذلك المشروع الذي طرحه الرئيس الراحل تورغوت أوزال وحمل لواءه أردوغان، ولعل الأخير يرى في هذا المشروع أفضل إنجاز في معركته لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة.