الماضي القابض على عنق الحاضر

منذر خدام

يتغنى العرب كثيراً ببعض تاريخهم، فهو يعوضهم بعض التعويض، عن مأساة حاضرهم، أو قل هو هروب من الحاضر بكل بؤسه وانحطاطه وعجز أهله، وتلاعب الآخرين بهم وتعريضهم لشتى أنواع الذل والهوان، إلى الماضي المتخيل بعد تلوينه بكثير من الأساطير. وهم بانكفائهم نحو ماضيهم، لا يستلهمون منه مغزاه، روحه المحركة، بل يستحضروه ليجيب عن أسئلة حاضرهم، ومستقبلهم أيضاً. وإذ يفعلون ذلك فهم يتوهمون، فالماضي مشروط بماضيه، انحجز فيه، ولا يمكن أن يشكل رافعة للمستقبل، إلا بمغزاه وعبره، وهي بقيت، للأسف الشديد، خارج المدركات الراهنة لمتطلبات الحاضر والمستقبل لدى الفاعلين الاجتماعيين، وفي مقدمتهم الفاعلون في الحقل السياسي.

وإذ يتغنى العرب بتراثهم، يبالغون فيه، يكيفونه حسب أهوائهم، فهم بذلك يبرهنون، على خروجهم من التاريخ، وانحجازهم في حلقة من حلقاته. فالتاريخ بما هو حراك مستمر في الزمن له اتجاه واحد، من الماضي نحو الحاضر فالمستقبل، ولا يستطيع أحد السير معه في اتجاه حركته، إلا إذا استلهم منطقه، وامتلك أدواته، واستجاب لمتطلباته في كل مرحلة من مراحله.

وإذا كان الماضي هو الأكثر قوة في تأثيره على وعي الحاضر ومدركاته، فهو في حقيقته لا يقبل الخروج من ذاته، ما دام الفاعل الاجتماعي فيه يعيش حاضره من أجل ماضيه، ويتطلع نحو المستقبل وفق مقاسات الماضي. هذا يجيب، جزئيا، عن التساؤل، لماذا المسار الانحداري من العلاقات والقيم الجامعة، مثل العلاقات الوطنية والقومية والإنسانية، نحو العلاقات القبلية والطائفية والمذهبية والعشائرية والعائلية، من قيم المواطنة والتسامح والمشاركة، نحو قيم الإقصاء والتكفير والكراهية، من فكرة الدولة والوطن والمجتمع والطبقة، إلى فكرة العشيرة  والقبيلة والطائفة والمذهب، هو الأكثر حضورا في حياة العرب، والأقرب إلى وعيهم وتقبلهم.

ويبقى السؤال الأساس: لماذا يتخلف العرب ويتقدم غيرهم؟ وللجواب عن هذا السؤال لا بد من النظر في جوانب عديدة من جوانب الواقع العربي، ومقارنتها مع مثيلتها في المشاريع التي نجحت.

إن جميع المشاريع النهضوية الناجحة قامت على أساس من ثقافة العصر بما فيها من أولوية حقوق الإنسان والديمقراطية والتعددية، في حين لم يستطع العرب التخلص من الاستبداد السياسي والثقافي والاجتماعي.

إن حجر الزاوية في نجاح أي مشروع نهضوي هو نجاحه في بناء نظام في المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يتنافس فيه أصحاب هذه المصالح لتحقيقيها بصورة سلمية وفي إطار القانون.

إن جميع المشاريع النهضوية الناجحة تأسست فيها السياسة على الثقافة الحداثية، في حين لا تزال السياسة في البلدان العربية تتأسس على ثقافة الماضي، وهي في خدمتها وظيفياً. لذلك بقيت أفكار مثل التعددية والاختلاف، وفكرة القانون، وفكرة التعين بوجود الآخر لا بنفيه، أفكار غير أصيلة ولا متأصلة في ثقافتنا، لأن هذه الأفكار تقوم على فكرة الحرية الغريبة عن قيم الاستبداد وثقافته.

إن جميع المشاريع النهضوية الناجحة كان لديها برامج تنموية جامعة شاملة، موزعة زمنياً على مسار استراتيجي محدد، في حين لم يكن لدى العرب مجتمعين أو من خلال دولهم القطرية مثل هذه الخطط والبرامج.

لقد أدت دولة المؤسسات والقانون دوراً وظيفياً رائداً في قيادة المشروع النهضوي الناجح، وتأمين مستلزمات استقراره وتطوره الديناميكي، في حين نجد فكرة الدولة الأمنية الجهازية، هي الفكرة المتأصلة والأصيلة في ثقافة الاستبداد وقيمه، وفي واقعه السياسي.

لقد تميزت جميع المشاريع النهضوية الناجحة بالوطنية، وانطلاقاً من مصالح الوطن ومن ضرورة تطويره، دخلت في علاقات تأثير متبادلة مع الخارج بما يمثله هذا الخارج من قوى ومصالح. أما العرب فقد ارتضوا لأنفسهم التبعية للآخرين، والتكيف مع سياساتهم ومصالحهم، حتى أصبحوا في وضعية يتلقون فيها الأوامر وهم صاغرون.

وبعد إلى أين تسير الدول العربية؟

بعض الدول العربية، وخصوصا تلك التي لديها فائض ثروات، أخذت تنخرط عضوياً في المنظومة الرأسمالية العالمية على قاعدة العولمة الاقتصادية والتبعية السياسية في فضاء ثقافي هجين يسيطر فيه التقليدي على الحداثي. إنها تركيبة فريدة نظرياً وغير مستقرة، تضمر احتمالات كثيرة للردة والانكسار، إذا بقي النظام السياسي فيها دون تغيير جذري.

ودول عربية أخرى لا تزال في وضع غير مستقر، تحاول النهوض وتجاوز الأزمات التي عصفت بها من جراء اختبار ما سمي “الربيع العربي”، لكن دول عربية اخرى لا تزال في انحدار متسارع نحو الهاوية ومنها سوريا. وفي جميعها لا يزال الماضي يقبض على عنق الحاضر بثقافته الدينية وأنماط تفكيره وقيمه وحراثه المعممين، وبدون القطع معها والدخول في ثقافة العصر سيبقى يشل حركتها نحو المستقبل.