هناك اسم يمكن أن يعطي صورة عن منهج تعامل روسيا مع الجمهوريات السوفياتية السابقة، هو الجنرال أندريه سيرديوكوف، قائد القوات الروسية المحمولة جواً. سيرديوكوف قاد عام 2014 عملية احتلال شبه جزيرة القرم التي هي جزء من أوكرانيا وفق اتفاق تفكيك الاتحاد السوفياتي في السادس والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر عام 1991 الذي أقر أن الحدود القائمة بين جمهوريات الاتحاد السوفياتي كحدود ما بعد الانفصال.
كما أنه هو الذي قاد قوات دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO) التي تضم روسيا وبيلاروسيا وأرمينيا وكازاخستان وطاجيكستان وقرغيزيا التي نزلت في كازاخستان في الأسبوع الأول من عام 2022 بناءً على طلب الرئيس الكازاخي، واحتلت وسيطرت على المنشآت الحيوية في البلد بعد أن كان متظاهرون قد أحرقوها أو دمروها.
ويمكن أيضاً لسيرة الجنرال سيردياكوف أن تكون أبعد ما دام قد اشترك في حرب الشيشان (آب/ أغسطس 1999- أيار/ مايو 2000) التي أعيد من خلالها السيطرة على جمهورية الشيشان ذات الحكم الذاتي ضمن الاتحاد الروسي.
وربمايلخص سيرديوكوف طريقة التعامل العسكرية في هذا المجال، لكن فلاديمير بوتين، الذي أصعدته حرب الشيشان من رئاسة الوزراء الروسية إلى الرئاسة الروسية في الكرملين في ليلة رأس سنة 2000،هو معبر أكثر.
بوتين الذي أظهر في خريف 1999 قساوته اللامحدودة لدرجة تدمير العاصمة الشيشانية غروزني وتسويتها بالأرض أثناء مواجهته للتمرد الشيشاني، أعطى صورة معاكسة عن الروس غير تلك التي أعطاها بوريس يلتسين، الذي هزم أمام الشيشانيين في حرب الشيشان الأولى (1994-1996).
يلتسين أظهر صورة الروسي الضعيف للمحيط السوفياتي السابق وأمام العالم، في شكل صادم لشعور الروس القومي الذي لاقاه وعززه حتى الجيورجي جوزيف دجوغاشفيلي(ستالين)، وهو الشيوعي البلشفي العابر للقوميات والأممي الاتجاه والتفكير، عندما وضع موسكو عام 1945 في قمة العلاقات الدولية مع واشنطن وجعل هناك نظام “ثنائية القطب” الذي انبنت عليه معادلة الحرب الباردة.
هنا، تشبه أوكرانيا 2014 وضع كازاخستان 2022، من حيث وجود ثورة في الشارع على سلطة سياسية موالية لموسكو، ولكن كازاخستان لم تكرر ما جرى في أوكرانيا عندما أطيح بالرئيس الموالي للروس بفعل ما جرى في الشارع وأتت سلطة موالية للغرب، وهو ما دفع الروس لاحتلال القرم ولتشجيع تمرد الأقلية الروسية في الشرق الأوكراني على سلطة كييف.
ففي كازاخستان كانت قوات الجنرال سيرديوكوف سريعة جداً في التحرك كما أن الرئيس الكازاخي قاسم توكاييف لم يهرب ويغادر كما فعل الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكيفيتش أمام المتظاهرين عام 2014.
وفي كازاخستان، كان هناك تفصيل إضافي عن المشهد الأوكراني، هو الانقسام في السلطة الذي ظهر أثناء الاضطراب الكازاخي، حيث يدل اعتقال رئيس المخابرات “ماسيموف” واستبدال رئيس الوزراء “عسكر مامين”، وهما من الذين عينوا من قبل الرئيس الكازاخي السابق نور سلطان نزاربييف قبيل تنحيه عن السلطة عام 2019،على أن سلطة الرئيس توكاييف ليست في اتجاه واحد في مواجهة الشارع المضطرب وليس كل من في السلطة هو على رأي واحد تجاه موسكو.
ربما هناك مؤشرات كثيرة على أن واشنطن، وربما لندن كذلك، قد أرادت إفقاد موسكو نفوذها في جمهورية سوفياتية سابقة هي حاجز جغرافي بين روسيا والصين (غير سيبريا الروسية) من خلال استثمار ولاءات أفراد سلطة انبنت منذ عام 1991 على أساس نهب البلد من قبل عائلة حاكمة هي أسرة الرئيس السابق نزاربييف، وهو الشيوعي العضو في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي منذ الثمانينيات ثم الرئيس للجمهورية الناشئة لـ 28 عاماً.
وكان نزاربييف ظاهر الولاء لموسكو سياسياً، لكنه هو وأفراد أسرته وبطانته فتحوا البلد للاستثمارات والشركات الغربية الأميركية والبريطانية والأوروبية، وأرادوا لعب دور اللاعب المستقل، بسبب أهمية البلد الاقتصادية والجغرافية، ليس فقط بين موسكو وبكين بل أيضاً بين الشرق الروسي-الصيني والغرب الأميركي- الأوروبي، وهم على ما يبدو من خلال ارسال أولادهم للمدارس والجامعات البريطانية ومن خلال أموالهم المودعة في البنوك الغربية يميلون ثقافياً وكنمط حياة لنموذج نيويورك وليس لنموذج شنغهاي.
وهذا بالتأكيد ناتج عن وضعهم الاقتصادي الجديد الذي انبنى على معادلة أن “السلطة تصنع الثروة” ولو أن ولاءاتهم السياسية ظلت ظاهرياً ضمن المدار الروسي.
في هذا الاطار، من الواضح مما جرى في كازاخستان، على أن الأمر ليس داخلياً محضاً، بل هناك استثمار لحالة اقتصادية متردية في بلد غني بالموارد ومنهوب، من أجل قلب سلطة عبر استغلال ثورة انفجرت عفوياً في احتجاج على الأوضاع القائمة، وأن هناك من كان يتربص في مراكز معينة بالسلطة من أجل إزاحة منافسيه، وكل منهما بولاءات متباينة خارجية، وفي هذا الصدد كان الرئيس الموالي للروس أسرع في الفتك بخصومه في السلطة الموالين للغرب.
وعلى ما يظهر أن الرئيس بوتين والجنرال سيرديوكوف قد حسما الصراع لصالح توكاييف، وبالتالي لصالح موسكو، وهذا ما يفسر عصبية وزير الخارجية الأميركي “بلينكن” تجاه ما جرى في كازاخستان الشيء الذي بالتأكيد ناتج عن إحساسه بأن السيناريو الأوكراني لم يسر جيداً في كازاخستان، وهو البلد الذي يشبه شطيرة اللحمة الدسمة بين شقي السندويشة الروسية-الصينية، والتي لو اقتنصتها واشنطن لجعلت التحالف بين موسكو وبكين أقل احتمالاً، وهو تحالف تخشى الولايات المتحدة أن ينهي وضعية القطب الأميركي الأوحد للعالم.