خطورة الاعتياد على العدوان التركيّ

تجاوزت تركيا الصلاحيات الملتبسة الواردة في ميثاق الأمم المتحدة في الفصل السابع وتحديداً المادّة 51 التي فسّرتها بأنها تفويض مفتوح لممارسة احتلال أجزاء من سوريا وقتل مواطنيها بذريعة “الدفاع عن النفس”، والغرابة أن تفويض تركيا لنفسها في تطبيق هذه المادة يستوجب أن يتوقّف في لحظة ما حين “يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي”، غير أنّ مجلس الأمن لا يبدي أدنى اكتراث للتدخّل التركي الدمويّ.

خلال العام الفائت استهدفت تركيا بواسطة الطائرات المسيّرة عشرين هدفاً في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، خلّفت عملياتها  40 ضحيّة بين قتيل وجريح، بينهم تسعة مدنيين فقدوا حياتهم وتسعة أطفال أصيبوا بجراح، وفقاً لأرقام المرصد السوري، فيما كان العنوان اليومي هو القصف المدفعي والاشتباكات في مناطق زركان وعين عيسى وتل رفعت، وأما نطاق الأعمال العدائية فقد توسّع ليشمل مناطق جديدة منذ حلول العام الحالي في كوباني وريف تل أبيض التي استهدفها الطيران المسيّر والمدفعيّة العام الفائت سوى أن التركيز على هاتين المنطقتين بدأ يأخذ طابعاً مشابهاً للعدوان على بقية المناطق وبات أقرب إلى مسرح عمليات عسكريّة يوميّة، بيد أن ما يخيف في كل ما يحصل هو أن شيئاً من الاعتياد بدأ يطبع حياة سكّان المناطق الكردية، والحال أن أعمال القتل والقصف والانتهاكات باتت تتحوّل إلى نمط حياة عاديّة.

طاردت تركيا أشباح أوجلان أيضاً حين قصفت منزلاً في قرية علبلور بكوباني كان قد زاره زعيم العمال الكردستانيّ عبدالله أوجلان قبل أكثر من 40 عاماً، وهو ما يضيف إلى طبيعة العدوان مسحة سريالية وهستيريّة حين تختار أنقرة أهدافاً تنتمي إلى عوالم الماضي، لكنها إلى ذلك تكشف عن نزعة استعراضيّة فارغة تحاول تبرير العدوان بأي وسيلة كانت.

حقيقة الأمر أن الكتابة عن آخر انتهاك أو اعتداء أو جريمة، تصبح كتابة قديمة خلال أقل من 24 ساعة وتنسخها أخبار عاجلة أخرى، ذلك أن الانتهاكات المتواصلة بلا انقطاع والأخبار المتتابعة، تعني في شكل ما، الاعتياد على ما يحصل، وبالتالي يصبح الرصد السنويّ الذي يحوّل الضحايا إلى أرقام، والعمليات العدائية والانتهاكات إلى أرقام،وهو أكثر ما يثير الحفيظة ويعكس عجز الأطراف الدولية من وضع حدّ للتريّض التركي الدمويّ في باحتها الجنوبيّة أو ما ترفض تركيا تسميته بلاداً جارة (سوريا)، وبالتالي فإن أخطر ما قد تحدثه الحروب والاعتداءات المديدة هو تحويل القتل إلى وجهة نظر ونظرية عمل، والضحايا إلى أرقام مجرّدة قابلة للزيادة في كل لحظة، طالما أنّها ليست أكثر من أرقام.

تصوير تركيا عملياتها العسكريّة بأنها محدودة في نطاقها الجغرافيّ وأنها لا تتعدّى كونها اشتباكات ضيّقة لن تكون مقدّمة اجتياح عسكريّ وأن بنك أهدافها يقتصر على مقاتلين كرد غير سوريين، ينطوي على تضليل واضح بالنظر إلى أسماء الضحايا، عسكريين ومدنيين، والأوضح من ذلك هو مقدار التواطؤ الروسي الأميركي مع هذه العمليات التركيّة، إذ إن انكفاء الولايات المتحدة وتركها لهوامش قتل محدّدة في خارج أماكن تواجدها يعني أيضاً أنها تغمض عينيها متعمّدة عمّا يجري وتنكث بوعودها المتصلة بحماية حلفائها، فيما يرى الروس في الاعتداءات التركية فرصة مناسبة لدفع الإدارة الذاتية وقسد إلى حيث مهزلة “التسويات” مع النظام.

والمؤلم على الدوام، هو نجاح تركيا في “شيطنة” الضحايا، وهو ما أفقد الضحايا وذويهم من أن يحظوا بالتعاطف اللازم؛ فالرواية الرسميّة التركية، ورواية عملائها السوريين، تتقن صنعة وضع اللّوم على الضحية ووصمها بالإرهاب بعد أن تنزع عنها آدميتها، وبذا لاتحرّك مشاهد الجثث والأشلاء الآدمية، أو صورة رِجل طفل مبتورة جرّاء القصف، أدنى غضبة سوريّة، فضلاً عن انعدام التعاطف بما هو المادة اللاصقة المتبّقية للحفاظ على العلاقة بين المجتمعات السوريّة المتخارجة.

وأما التشاؤم فمردّه أن الاعتداءات ستستمرّ، وإن اختلفت وتيرتها، فيما لن يوقفها ترنّح أداء الحكومة التركية الاقتصاديّ أو تراجع شعبية الحكومة أو حتى خسارة الحزب الحاكم في انتخابات العام المقبل؛ فالمتوقّع هو إبقاء الحكومة الحالية أو القادمة على ذات النهج العدائيّ، ويزيد من حدّة هذا  النهج هوان السوريين، وطبيعة مصالح الدول، كمصلحة روسيا في استمرار الضغط/العدوان التركيّ، والأهم هو صعوبة الوصول إلى اتفاق جدّي بين الإدارة الذاتيّة ودمشق.

صحيح أن فكرة تنفيذ عملية عسكرية على غرار ما حصل في عفرين ورأس العين/سرى كانيه تبدو بعيدة في هذه الأثناء، إلّا أن استمرار الانتهاكات والاعتداءات بالطائرات المسيرة والقصف المدفعي يساوي في حال استمراره اجتياحاً برّياً، قياساً بالأضرار التي يلحقها بالقرى والأفراد والأطفال وحركة الحياة اليوميّة، وهو ما يستلزم البحث عن حلول تُوقف هذا العدوان بأسبابه المفهومة وغير المبرّرة.

ثمّة بشاعة يوميّة ترتكبها تركيا، ولا يحتاج التنبّؤ بها إلى بصيرة نافذة. اليوم وغداً ستشهد المنطقة أعمالاً عدائيّة أخرى وبعد غدٍ أيضاً، لكن ما ينبغي رفضه على الدوام هو الاعتياد على ما يحصل، وهذا الاعتياد هو بالتحديد ما ترمي إليه أنقرة.