من حمص إلى دمشق.. تاجر الأقمشة الستيني افتتح بسطة في الشيخ سعد

دمشق- نورث برس

يعيد أبو أنس الحمصي (63 عاماً) ترتيب بعض الإكسسوارات على بسطته في منطقة الشيخ سعد في الجهة الغربية من العاصمة دمشق، بينما يدعوه جاره إلى كأس الشاي الذي أصبح تقديمه عادة لا يستغنيان عنها كل مساء.

وللبائع، الذي اكتفى بذكر “أبو أنس” من اسمه، قصة لا تخلو من شجن، كما قصص غالبية السوريين بعد ما يقارب 11 عاماً من الحرب وأزماتها في البلاد.

وبين حمص التي يتحدر منها البائع والعاصمة دمشق التي انتقل إليها 141 كيلومتراً فقط، تكفي ساعتان لتقطعها السيارات والحافلات، لكن التغيير الذي أصاب حياة أبو أنس أكبر من ذلك بكثير.

فقد تحولت حال الرجل من تاجر أقمشة في سوق حمص المسقوف “سوق المقبي” إلى عامل في محال العاصمة، إلى أن قرر البدء من الصفر بافتتاح بسطة يعتبرها أداة “للكرامة” في سنوات ما بعد الستين من عمره.

“مئتا ليرة”

يلتحف معظم باعة البسطات هنا بالمعاطف والقبعات الصوفية وسط انخفاض درجات الحرارة لا سيما في المساء الذي يعقب نهار الشتاء القصير.

الحرب والاشتباكات والحصار، كلمات تؤرخ أحداث حياة السوريين في العقد الثاني من هذا القرن، يتذكر البائع الحمصي ما جرى في مدينته بين عامي 2012 و2015 تحديداً.

طال الدمار السوق التاريخي المسقوف ومحل “أقمشة وردة” الذي يقول صاحبها أنه ما من أحد من سكان حمص إلا ويعرفه.

يستذكر الماضي وكيف كان يتوجه كل صباح كم منزله بمنطقة الحميدية إلى محله الذي تتزاحم فيه صفوف الأقمشة على اختلاف أنواعها وأسعارها.

يقول إنه كان شاهداً على موت زبائن له وهم يغادرون السوق أثناء الاشتباكات، ثم يدعو بالتوفيق لآخرين فروا إلى خارج حدود البلاد.

بعد فك الحصار عن الأحياء وانسحاب مقاتلي المعارضة من المدينة عام 2014، زار التاجر محله فلم يجد سوى جدار وحيد ما زال قائماً في الصدر.

غادر ” أبو أنس” حمص متوجهاً للعاصمة وبجيبه 200 ليرة سورية.

 وصل إلى عائلته بعد نحو أربع سنوات من الغياب القسري، وصلَ “هزيلاً منهكاً” كما يصف بسبب أهوال الحرب وتأثير مشاهد دمار السوق ومحله الكبير.

“أجير ستيني”

ومن تاجر كبير ذي شهرة، أصبح عاملاً في محال تجارية صغيرة في دمشق وضواحيها.

يقول: “عملت أجيراً بكرامتي، بحثت عن باعة وتجار من حمص هنا، عملت عند بائع حلويات حمصية مدة عام كامل”.

و”أجير” كلمة شائعة في الأسواق السورية تطلق على العاملين لدى أصحاب المحال أو المتتلمذين على يد تجار وحرفيين.

ولا يليق هذا الوصف بـ “أبو أنس” خبرة ومكانة وسناً، إلا أنه يستخدم الكلمة كتعبير عن الموضع الذي دفعته إليه الحرب وأزماتها.

يعقب على ذلك الآن: “بلعت دمعتي مليون مرة ومرة”.

ويضيف: “هي سنة الحياة”.

وهذا العام، قرر التاجر السابق فتح بسطة بيع هنا في منطقة الشيخ سعد.

“درست سوق البسطات في الشيخ سعد، كانت غالبيتها تبيع ألبسة مستعملة، وبما إنه سوق غالبية زواره من طلبة الجامعات، اخترت إكسوارات الشعر والجزادين للبنات”.

ويبدو أبو أنس، الأب لثلاث بنات، راضياً من عمله على البسطة هنا، رغم الأزمات المعيشية التي تعصف بالعاصمة ونقص الخبز والوقود والغاز المنزلي والغلاء عموماً.

ويعتبر أن ما أسماها “رحلة الأجير الستيني” قد انتهت حين فرش لأول مرة غطاء على الرصيف ليرتب بضائعه.

صبر وكفاف

يستقبل زبائنه، ويسامر جيرانه متحدثين عن الحياة والأحوال وكفاف العيش بكرامة.

وتربط البائع الستيني صداقة ودية مع الجيران والزبائن الذين اعتادوا أن يسأل “العم أبو أنس” عن أحوالهم ويستمع لهمومهم كلما ضاقت بها صدورهم.

يقول الشاب أحمد علي (35 عاماً)، وهو اسم مستعار لبائع ألبسة بالة، إن الابتسامة لا تفارق وجه العم الذي يجد دائماً حلاً عبر النصح بالصبر.

ويضيف: “كلمته واحدة بيننا، هي دائماً كلمة فصلٍ وحق في أي خلاف بين الباعة أو بين بائع وزبون عابر”.

ويشكل الطلاب الجامعيون، لا سيما طلاب الطب البشري، غالبية زبائن بسطة الإكسسوارات، ولا يقتصر الأمر على الفتيات، فلربما يطلب شاب هدايا غير مرتفعة الثمن.

يشير “أبو أنس” إلى الفتاة التي تتفقد البضائع، “بعد أيام ستسافر في إجازة إلى حمص، وبعد أعوام ستكون طبيبة تداوي آلامنا”.

يقول إنه يفرح أن تكون الهدايا لأحبة أو للأهل حين يزور الطلاب عائلاتهم في المدن الأخرى، لكن ما يحزنه أن البعض يفصح له بطلب”هدية وداع” قبل مغادرة البلاد.

إعداد: ذهب محمد- تحرير: حكيم أحمد