علامات على اقتراب الموت السياسي للأردوغانية

هناك في السياسة علامات، مثل تلك التي تظهر على الجسم البيولوجي، تدل على اقتراب الموت للجسم السياسي، أكان هذا الجسم حزباً أو نزعة سياسية مجسدة في شخص، أو الاثنين معاً.

في فترة ما بعد الفشل البريطاني في حرب السويس عام 1956 ضد الرئيس جمال عبد الناصر، يمكن أن نجد هذا الوضع، مثلاً، عند رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس زعيم الحزب الديمقراطي، الذي جمع النزعة الإسلامية مع النزعة الموالية للغرب، وعند رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد.

الاثنان كانا من عرابي حلف بغداد عام 1955 مع البريطانيين وقد دخل الاثنان في مجابهة مريرة مع الزعيم المصري الذي رفض سياسة الأحلاف، وعندما قام عبد الناصر بتأميم شركة قناة السويس، رأت لندن وأنقرة وبغداد أن هذه فرصة لشن حرب من أجل إنهاء ظاهرة جمال عبد الناصر.

كان الفشل في هذه الحرب ضربة قاضية للحياة السياسية لرئيس الوزراء البريطاني أنطوني ايدن التي انتهت باستقالته عام 1957، وقد ظهرت نذر الموت على النظام الهاشمي في بغداد منذ صعود رياح الزعيم المصري، ولم يتأخر ذلك عندما أتى يوم الرابع عشر من تموز/يوليو 1958 لما انتهى ذلك النظام بانقلاب عسكري ومعه حياة نوري السعيد الذي سحل بشوارع بغداد في اليوم التالي، كما أن علامات الموت قد حامت لثلاث سنوات ونصف على حكم مندريس حتى جاء الانقلاب العسكري ضده في السابع والعشرين من أيار/مايو 1960 الذي اقتاده إلى المشنقة.

يعيش الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ سنتين حالتي نوري السعيد وعدنان مندريس ما بعد حرب السويس، فأردوغان يشهد حالة انحسار في شعبيته بالداخل التركي كشخص جسد خلال عقدين من الزمن تياراً سياسياً مؤطراً في حزب يجمع الإسلام السياسي مع النزعة القومية التركية والاتجاه المحافظ اجتماعياً، بينما خصومه  في حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي يشهدون مداً سياسياً وفق استطلاعات رأي محلية ودولية عشية اقتراب الانتخابات البرلمانية والرئاسية.

أردوغان، الذي أدخل تركيا خلال العقد الأول من القرن الجديد في نادي الدول العشرين الأقوى اقتصادياً، يعيش حكمه الآن على وقع أزمة اقتصادية تنذر بانهيار كامل للاقتصاد التركي.

وهناك فشل كامل للسياسات التركية الخارجية المعلنة مع وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة عام 2002، سواء على صعيد “سياسة صفر مشاكل” مع دول الجوار، حيث تعيش تركيا علاقات ملتهبة مع سوريا والعراق واليونان وقبرص وأرمينيا، وعلاقات فاترة مع إيران، وعلاقات متوترة مع الدول القريبة جغرافياً مثل السعودية ومصر. وهناك فشل في السياسة التركية المتعلقة بالأزمة السورية البادئة عام 2011، وعدم نجاح السياسة التركية في ليبيا.

على صعيد العلاقات مع واشنطن هناك توتر منذ عام 2013 مع انتهاء الزواج الأميركي مع الأصولية الإسلامية الإخوانية في علاقات أردوغان مع ثلاثة رؤساء متعاقبين على البيت الأبيض، أوباما وترامب وبايدن، وهناك الكثير من المؤشرات على ضلوع أميركي في محاولة الانقلاب العسكرية التركية الفاشلة عام 2016. وهناك علاقات عالية التوتر بين تركيا والاتحاد الأوروبي.

ومن جهة مقابلة، لم تشهد العلاقات التركية- الروسية منحى مستقراً، وكانت عند أردوغان منذ انفتاحه على موسكو عقب أسابيع من محاولة الانقلاب ضده مساراً أراد الرئيس التركي من خلاله استخدامها كورقة للمساومة مع واشنطن، أو لتقوية وضعه أمامها، ولأخذ مكاسب جغرافية في سوريا من خلال السكوت الروسي.

 وهو ما حصل في خط جرابلس- إعزاز عام 2016 وفي عفرين عام 2018 وفي خط رأس العين- تل أبيض عام 2019، أو لتثبيت وضع جغرافي سوري تسيطر عليه تركيا كما حصل تجاه إدلب من خلال اتفاق بوتين- أردوغان في الخامس من آذار/مارس 2020.

هنا، مازال هناك الكثير من التقلب في العلاقات الروسية- التركية مادامت أنقرة  لم تستدر شرقاً بعد، ولم تحسم عضويتها في حلف الأطلسي، ومادام هناك إحساس روسي بأن العلاقة مع موسكو عند أردوغان مجرد وسيلة لتحسين وضعه مع واشنطن، كما أن موسكو لم تنسَ السياسات التركية المعاكسة لها في ليبيا وفي حرب 2020 الأرمينية- الأذربيجانية، وهي تخشى كثيراً من النزعة الطورانية التي ترى تركيا من خلالها أن هناك عالماً تركياً على الصعيد الثقافي- اللغوي- القومي يشمل جمهوريات سوفياتية سابقة (أذربيجان-وتركمانستان وكازاكستان وأوزبكستان وقرغيزيا).

هنا، لا تسمح الدول العظمى بأن تلعب الدول الصغرى بينها أو على شقوق تصادماتها وخلافاتها.

لن تكون محاولة أردوغان بمصير مختلف عن عبدالناصر، الذي استدار شرقاً عام 1955 نحو موسكو إثر خلافاته مع لندن وواشنطن بشأن سياسة الأحلاف، وانفتح على واشنطن صيف 1958 بعد صدامه مع حكم عبدالكريم قاسم المدعوم من الشيوعيين العراقيين، ثم انفتح على موسكو في ربيع 1964 بعد أن أرسى ليفي أشكول، خليفة بن غوريون في رئاسة الوزراء الاسرائيلية،حلفاً استراتيجياً مع واشنطن كانت حصيلته الكبرى في حرب 1967 ضد عبدالناصر التي نفذتها تل أبيب بالوكالة عن واشنطن، ولم يكن عبدالناصر مخطئاً عندما أبلغ القادة السوفييت بأن هزيمة حزيران ليست هزيمة فقط للقاهرة بل ولموسكو أيضاً وأن أحد أهدافها تغيير موازين القوى العالمية أو تعديلها لصالح الأميركان الذين كانوا آنذاك يغوصون في مستنقع الحرب الفييتنامية.

السؤال الآن: هل يستطيع أردوغان تفادي مصير مندريس، وليس شرطاً أن يكون ذلك عبر الانقلاب العسكري والمشنقة، والأخيران أتيا كحصيلة للموت السياسي عند مندريس؟.