ريف حلب الشمالي- نورث برس
تبذل باريانا سيدو (15 عاماً)، وهي نازحة من عفرين، جهدها لتعليم فتيات أخريات يقاربنها في العمر، ما تعلمته سابقاً عن العزف، وذلك في ظل غياب مراكز مجهزة ومختصين لتدريسهم الموسيقى.
ففي خيمة لا تتجاوز مساحتها بضعة أمتار بمخيم سردم لنازحي عفرين بريف حلب الشمالي، تجتمع الفتيات حاملات آلات الكمان التي حملنها من منازلهن حين نزحن من منازلهن قبل ما يقارب أربعة أعوام.
وعام ٢٠١٨، نزحت عائلة باريانا من قريتها جولاق بريف عفرين عقب غزو تركيا والفصائل الموالية لها للمنطقة.
وبعد السيطرة التركية، لجأ نحو 300 ألف شخص من نازحي منطقة عفرين للسكن في مخيمات العودة وعفرين وبرخدان وسردم وشهبا، بينما توزع آخرون على 42 قرية وبلدة بريف حلب الشمالي.
وبحسب إحصائية لهيئة الشؤون الاجتماعية والعمل لإقليم عفرين والعاملة حالياً بريف حلب الشمالي، فإن 2000 عائلة نازحة من عفرين تتوزع في المخيمات الخمسة، وحوالي 140 ألف شخص في القرى والبلدات المجاورة.
وفي ريف حلب الشمالي حيث تتعدد مناطق النفوذ، تعيش العائلات النازحة وسط نقص مستلزمات أساسية للعيش وغلاء أخرى بسبب تحكم حواجز الحكومة السورية بدخولها وفرضها إتاوات على أي شحنات قادمة من الجزيرة أو مدينة حلب.
لكن ذلك كله لم يمنع الفتيات من السعي لتطوير مواهبهن وجعل أكتافهن الصغيرة مسنداً للكمان الذي جمعهن تحت خيمة هنا.
شغف بالعزف
وفي العاشرة من عمرها في عفرين ، بدأت باريانا الغناء قبل تعلم العزف، فأخواتها اللواتي أتقنّ العزف على عدة آلات كنّ حولها آنذاك.
تقول لنورث برس إن تلك الأجواء شجعتها على أداء الأغاني والبدء بتعلم العزف لاحقاً.
تعطي الآن دروساً نظرية ل ٢٨ طفلاً يستعدون لتعلم العزف على الكمان، جميعهم من العائلات النازحة التي تعيش في المخيمات أو القرى المجاورة.

كما تشرف على تدريبات عملية لثماني فتيات يحاولن التعلم ذاتياً وبالتشارك.
ويشمل برنامج الدروس ساعتين أسبوعياً لدروس النوتة النظرية وللتدريبات العملية.
وستستمر الفتاة بتعليم زميلاتها لحين عودة شقيقتها التي تكبرها من مدينة القامشلي.
تقول إنها تتلقى هناك دروساً لمستوى متقدم وأن الفتيات هنا سيستفدن منها حين تعود.
ومع بداية العام الجديد 2022، تتمنى باريانا أن تنتهي الحرب وتعود مع زميلاتها والعائلات النازحة إلى ديارها لتحقيق أحلامها وتطوير موهبتها هناك.
وعام 2018، تركت عائلة لورين كور عبدو (14 عاماً) كل أثاث منزلها وممتلكاتها حين فرت من مدينة جنديرس.
لكن الفتاة لم تنسَ حمل آلة الكمان التي اشتراها والدها ودفع ثمنها على أقساط.
كان النزوح الثاني للعائلة التي تركت منزلها في مدينة حلب عام 2013 بسبب المعارك بين قوات الحكومة السورية وفصائل المعارضة.
تقول إنها بدأت تعلم العزف في العاشرة من عمرها، لكن بدأت الهجمات التركية بعد تسعة أشهر فقط من ارتيادها معهد “آديك” للموسيقى في جنديرس.
تعيش لورين الآن في قرية الأحداث بريف حلب الشمالي، وهي إحدى الفتيات الثمانية اللواتي يتدربن مع باريانا.
معاهد في الشتات
الخيمة التي تتدرب فيها الفتيات هي مركز لحركة الهلال الذهبي، وهي مؤسسة ثقافية نسائية مقربة من الإدارة الذاتية تهتم بالموسيقى والتراث الكرديين، إلا أنها هي الأخرى تعاني من نقص الإمكانات بسبب النزوح.
تقول مزكين جولاق الإدارية في “الهلال الذهبي” إن الفتيات شاركن في عدة احتفالات وأعياد في المخيمات، منها عيد نوروز وعيد المرأة، بالإضافة لعزفهن أثناء إقامة أسابيع ثقافية تضمنت فقرات تراثية وموسيقية.
وتضيف أن الفتيات استطعن رغم صعوبات النزوح إتقان العزف على عدة معزوفات كردية وعربية وأخرى أجنبية.
ومنذ القدم، اشتهرت منطقة عفرين شمال غربي سوريا بغنى تراثها الموسيقي، وكان المغنون الكرد يحافظون على الملاحم الغنائية عن طريق حفظها وتوارثها شفاهياً.
وخلال نحو خمسة أعوام من عمر الإدارة الذاتية للمنطقة، افتتحت معاهد تعليم وتأسست فرق موسيقية كان لها دور في توثيق جزء من التراث الموسيقي للمنطقة.
لكن سيطرة تركيا والفصائل الموالية لها أودت بتلك الجهود، إذ تحظر تركيا كل ما يمت بصلة للثقافة الكردية، بينما تمنع الفصائل المتشددة الغناء والاحتفال والموسيقى حتى في الأعياد.
ورغم أن عفرين لم تكن تفتقر لمدرسين أكاديميين للموسيقى، إلا أن ضيق العيش في المخيمات، دفع معظمهم للانتقال لمدن الجزيرة أو مدينة حلب وممارسة عملهم هناك.
وفي مقابلة سابقة لنورث برس، قال بهجت سرور (24 عاماً)، وهو مدير معهد “دار ساز” للموسيقى إنهم تركوا كل معداتهم في مركزهم بعفرين حين فروا من الغزو التركي، فيما اتجه المدرسون والإداريون نحو مناطق مختلفة.
وافتتح أحدهم فرعاً في هولير في إقليم كردستان العراق، وافتتح آخر فرعاً في غازي عينتاب بتركيا، وآخر بألمانيا، في حين افتتح هو مركزاً بالاسم نفسه في حي الشيخ مقصود بمدينة حلب.
“كتبي والكمان”
مشاهد الدمار ورحلة النزوح وقصص الضحايا كانت كفيلة بنسيان ما تعلمته الفتاة لورين خلال تسعة أشهر في المعهد الموسيقي.
“لكنني تعرفت هنا على رومينا، شقيقة باريانا، التي بدأت تعليمنا من جديد”.
وبالإضافة لساعتي التدريب مع الفتيات في المخيم، تتبع لورين برنامج تمارين ذاتية ومتابعة دروس عبر الإنترنت في منزلها.
“أتمنى أن أصبح من العازفات الأوائل في المستقبل لتحقيق حلم عائلتي التي تقدم ما بوسعها كي لا نشعر بمراراة النزوح أكثر، وأن نتمكن من التعبير عن معاناتنا بطريقة مختلفة”.
آريا كراد (13 عاماً)، هي فتاة أخرى ضمن المجموعة، تحلم بالعزف في كل معلم في عفرين كقمة جبل ليلون وموقع النبي هوري.
وتستذكر الفتاة أن أول ما خطر لها حمله قبيل النزوح هو كتبها وآلة الكمان.
تقول بصوتها الرقيق إنها تتألم لما حل بمنطقتها وسكانها، وإنها تعبر عن مشاعرها بالعزف والأغاني.
“بعد أن نزحت، فقدت أصدقائي وأساتذتي، أتحدث عنهم دائماً لكنني لا أعلم أين وصلوا، أتمنى أن نلتقي ثانية في عفرين”.