من يجرؤ على الكلام

أستعير هذا العنوان من كتاب يحمل العنوان ذاته لمؤلفه الأميركي الشهير نعوم تشومسكي كي يكون عنواناً لهذه المقالة التي أحاول فيها توصيف الظروف العامة السياسية والثقافية في سوريا قبل تفجر الأزمة، وكيف ساهمت في الكارثة المستحقة التي حلت بسوريا دولة ومجتمعاً.

في بداية عهدة بشار الأسد في الحكم قدم نفسه بخطاب إصلاحي تحدث فيه عن المشكلات التي تعاني منها البلاد في مختلف مناحي الحياة. واللافت في الأمر أن السلطة في بداية عهده أخذت تطالب بالشفافية، واحترام حرية الرأي، وتدعو إلى استنهاض القوى المجتمعية للخروج من الأوضاع الصعبة التي وجدت سوريا نفسها فيها.

وهكذا خلال الأشهر الستة الأولى بدأ حراك اجتماعي لافت تحت عناوين مختلفة، وحاز عنوان حرية التعبير وحرية التحرك السياسي المساحة الأكبر في هذا الحراك. فأخذت تنتشر المنتديات الحوارية في كل مكان من الوطن، يتسابق إليها المعارضون والموالون، متوهمين أن الحرية صارت مكسباً لا رجوع عنه، وأن ممارسة الحرية ممكنة بلا مسؤولية، فغاب الحوار الحقيقي والجدي عن المنتديات ليسود بدلاً منه نوع من السجال بين خطابين: خطاب معارض مهاجم وخطاب موال مدافع.

وليست قليلة الحالات التي أفرط فيها بعض المعارضين في نقده للأوضاع القائمة في البلد متوهماً أن السلطة أصبحت ضعيفة في ظل المتغيرات الدولية الجديدة، وهي تكاد تتهاوى، وأن نقده الحاد هو بمثابة المعول الذي يسرع من عملية انهيارها.

كثيرون منهم لم يطرحوا على أنفسهم السؤال: ما هو البديل؟، بل اعتبروه سؤالاً في غير موضعه، وبالتالي لم يشتغلوا على بلورته في نزعة شعبوية مفرطة تفيد أن الشعب هو البديل! وفي بعض حالات العقلانية أحيلت القضية إلى جمعية تأسيسية تتولى بلورة البديل السياسي والاجتماعي لنظام الاستبداد بعد سقوطه والظفر بالحريات السياسية.

لقد غابت عن اهتمام المعارضة القضايا الاجتماعية والثقافية التي تؤسس لعمل معارض حقيقي بخلفيات اجتماعية محتضنة له وداعمة.

لقد كانت السلطة الجديدة بحاجة ماسة لغطاء مناسب لتصفية العناصر المترهلة المستمرة فيها من العهد الماضي، وتحقيق الانسجام فيها فوجدت في تقديم خطاب إصلاحي من حيث الشكل، وفي السماح بهوامش للحرية محسوبة ومسيطر عليها هي هذا الغطاء.

 وما إن انتهت المرحلة الانتقالية بالتخلص من بقايا العهد القديم، أو تحجيم دورها، أو إعادة تأهيلها، أي نجاح الرئيس في خلق سلطته، حتى عادت مسيرة الاستبداد إلى سابق عهدها إنما بحيوية متجددة، واحترام تام لمبادئ المدرسة السياسية التي أسسها الرئيس الأب خصوصاً لجهة تعزيز كاريزما الرئيس، وتقوية الأجهزة الأمنية وتوسيع نطاقات تدخلها لتشمل جميع مناحي الحياة للشعب السوري، وتعميم الإدارة بالفساد، والتضييق المستمر لهوامش حرية التعبير والعمل السياسي المعارض.

لقد تبخرت آمال السوريين بالحرية كما تبخرت أيضاً أمالهم في تحسين مستوى حياتهم مع انقضاء الفترة الدستورية الأولى المؤلفة من سبع سنوات، حيث تكشفت وعود السلطة عن زيف وخداع وخواء.

إن أهمية الحرية وضرورتها للبلد ليس لأنها حق طبيعي من حقوق المواطنة، كفلتها جميع الشرائع الدنيوية والدينية، ووثائق حقوق الإنسان، وحتى الدستور السوري، بل لأنها تشكل الضمانة الأكيدة لتكوين وبلورة آراء المواطنين تجاه القضايا التي تمس مصالحهم، ومصالح وطنهم، وتتيح لهم الدفاع عنها، وبالتالي تنبيه السلطة (أية سلطة) لاحتمال وقوعها في الخطأ، وتدلها على المخارج المحتملة والممكنة للخروج منه في حال الوقوع فيه.

إن طبيعة نظام الاستبداد في سورية وسيرورته خلال العقود القليلة الماضية تبين بجلاء أنه كلما اشتدت أزماته ازداد تشدداً في كم الأفواه ومنع الحريات الشخصية والعامة، حتى باتت المؤسسة الوحيدة التي تشتغل بفعالية وبكامل طاقتها هي المؤسسة الأمنية وملحقاتها من محاكم استثنائية.

لقد زج بنخبة من مفكري سوريا ومثقفيها أو الناشطين من أجل القضايا العامة في السجون أو من فصلوا من وظائفهم بذريعة نشر “الأخبار الكاذبة التي تضر بهيبة الدولة”، وكأن تعميم الفساد في المجتمع وفي كيان الدولة يحافظ على هيبة الدولة؟!.

إن سؤال الإصلاح عداك عن سؤال التغيير لم يكن سؤالاً جدياً لدى النظام في يوم من الأيام قبل عام 2011. لقد استطاع النظام وبدهاء إبقاء الفئات الشعبية مصدر أدواته الأمنية، في الوضعية البيولوجية المتلقية لعطاءات النظام، والحؤول دون تجاوزها إلى التساؤل عن أسباب بؤسها، وانهيار قيمها، وانتعاش بيئتها الأهلية، مع كل ما ينجم عن ذلك من مخاطر على المجتمع والدولة.

أما بالنسبة للفئات البرجوازية التي يفترض بها، بحكم وضعها الاقتصادي أن تكون شديدة الاهتمام بالحرية وبسيادة القانون وبالديمقراطية، حال النظام دونها وطرح سؤال الإصلاح أو التغيير برشوتها عبر إشراكها في عملية الفساد ونهب ثروات البلد.

من جهة أخرى فإن الفئات المثقفة التي يفترض بها أن تشكل العقل العام للمجتمع، ومؤشرات استشعاره، توزعت بين أغلبية صامته تمارس الثقافة للثقافة، وكثرة من الباقي استطاع النظام استمالتها إليه بوسائل متعددة لتشكل ما يعرف بمثقفي السلطة، وأقلية “متمردة” زج بقسم منها في السجون، وقسم آخر فضل الهجرة إلى خارج الوطن.

في مثل هذه الظروف فإن الكارثة التي حلت بسوريا بعد عام 2011 هي كارثة مستحقة، إذ أن كل مقدمات حصولها كانت ناضجة موضوعياً من جراء سياسة النظام، وخصوصاً لجهة كم الأفواه وإدارة الدولة والمجتمع بآليات الفساد وأساليبه.