ثقافة الخوف

في إحدى سهرات الثلاثاء، التي تجمعني، بين الحين والآخر، مع بعض الأصدقاء، كان الموضوع الثقافي الذي تبادلنا الرأي بشأنه هو ” ثقافة الخوف”. ونظراً لاختلاف مشاغل كل من الحاضرين، كان من الطبيعي أن ينظر كل منهم للموضوع من زاوية خاصة به، أو أن يغلب مجال انشغاله على نظرته ورؤيته للموضوع المبحوث، وهذا أمر طبيعي ومفهوم.

ونظراً لأهمية الموضوع بالنسبة لجمهور واسع في بلدنا فكان من الضروري إخراجه من بين الجدران إلى بعض وسائل النشر، عل وعسى، يستجر نقاشا أوسع يغنيه.

بداية كان لا بد من تحديد معنى الخوف، وهل هو صفة غريزية في الإنسان، أم أنه عارض طارئ تحدثه في الإنسان المؤثرات الخارجية. لقد كان الخلاف واسعا بين “المتسامرين” حول هذه النقطة، بين أكثرية لا تعتبره غريزة في الإنسان، وأقلية تميل إلى اعتباره صفة غريزية ليس في الإنسان وحسب، بل في جميع الكائنات الحيوانية الحية، وقد كنت من وجهة نظر هذه الأقلية.

حجتي في ذلك أن الكائن البشري مركب من جملة استعدادات، ترد باستجابات معينة على المؤثرات الخارجية، فيبدو هذا الكائن، بحسب طبيعة هذه المؤثرات، فرحاً أو حزيناً، خائفاً أو آمناً، كارهاً أو محباً. والخوف بهذا المعنى، أي كجملة استعدادات، وليس كمنتج انعكاسي (حالة خوف)، هو شرط لوجود الإنسان، يولد فيه استجابات سلبية، كما تولد فيه استجابات إيجابية.

إن الثقافة التي تنمي في الشخصية الاستعداد للطاعة هي ثقافة تسلطية بامتياز، إنها ثقافة الخوف، وبما هي كذلك فهي ثقافة تقتل القدرة على التساؤل، تعيد إنتاج الشخصية كموضوع للفعل، بعد أن تقتل فيه إرادة الفعل. تتفاقم هذه الوضعية كثيراً في المجتمعات المتخلفة، وخصوصاً في ظل الأنظمة السياسية المستبدة.

ومع أن ثقافة الخوف تشمل جميع مناحي الحياة إلا أنني سوف أركز في هذه المقالة  على ثقافة الخوف السياسي. يجري الكلام هنا على الخوف المرتبط بالانشغال بالقضايا العامة، والتي هي قضايا سياسية بامتياز. من الناحية المنهجية لابد من مقاربة الظروف المولدة للخوف، قبل الغوص في ثقافة الخوف بما هي نمط خطاب وسلوك يعكس تلك الظروف.

إن نقطة الانطلاق في فهم الخوف المرتبط بالشغل على القضايا العامة وبها، تكمن في طبيعة السلطة السياسية، والمصالح التي تعبر عنها.

وبصورة عامة فإن الخوف ثمرة من ثمار القمع، الذي يسجل حضوراً لافتاً في ظل الأنظمة الاستبدادية، وخصوصا في ظروف البلدان المتخلفة كما هو حال بلدنا.

هنا تلجأ السلطة إلى إحاطة نفسها بأسيجة قهرية من القوانين والتشريعات والأوامر الإدارية المقيدة للحريات، وبكثير من الأجهزة الأمنية.

في ظل السلطة المستبدة ثمة شبكة محكمة من أجهزة الخوف لا تقتصر على الأجهزة الأمنية المعنية، بل تشمل أيضا الأحزاب السياسية السلطوية والمنظمات النقابية والأهلية، وحتى مخاتير الأحياء، والبائعين المتجولين، وبعض سائقي التاكسي.

هنا كل شيء يتحرك حول محور ثابت هو الأمن، وإذ يتحرك فهو يتحرك بدلالته. والأمن هنا له مرجعية محددة تعايره هي السلطة، ومصالح الأشخاص الطبيعيين القابضين عليها.

في ظل السلطة المستبدة، يتحول الأمن إلى صنم، يعود في دورة تأثيره العكسي بعد أن يكون قد حاز على درجة عالية من الاغتراب والاستقلالية عن الأجهزة المولدة له والمتابعة لشأنه ليتحول إلى رقيب داخلي (شعور) يتحكم بنمط الخطاب وبالسلوك الفردي والجماعي.

وبالفعل، لا يحتاج المرء إلى جهد كبير ليكتشف مدى حضور وفعالية الرقيب الأمني الخارجي، أو شقيقه التوأم الرقيب الداخلي في جميع مجالات حياتنا يذرع الخوف فينا. ماذا يعني أن تحتاج إلى موافقة أمنية في كل عمل تريد القيام به، فرح كان أو مأتم، شغل، طباعة ونشر، سفر. ماذا يعني أن يسأل الأمن البقال أو الحلاق أو زملاء العمل عنك: أين تذهب؟ من يأتي لزيارتك؟ مع من تلتقي؟

في ظل السلطة الأمنية، تحتل الأجهزة محل التنظيمات المجتمعية المدنية والأهلية، يزداد الخوف، يفقد المجتمع فعاليته الإبداعية، يتباطأ حراكه العام، يسلطن الفساد، ينمو التخلف.

في تكوين الكائن البشري ثمة جهاز مناعي يحمي الجسم من المتدخلات الخارجية التي يمكن أن تعيق عمله الطبيعي، وفق قوانينه البيولوجية، وقد تسبب له المرض.

والمجتمع الطبيعي الذي يشتغل وفق قيم الحرية والديمقراطية والقانون، يحمي نفسه، بواسطة أجهزة أمنية يطورها لهذا الغرض، يكون الأمنيون فيها بمثابة الخلايا البيض في الجسم الحي، إنهم الجنود المجهولون الذين يسهرون على راحة الناس، يراقبون ويحمون تطبيق القانون، وفي المحصلة يشتغل المجتمع بكامل فعاليته، ويحقق تقدمه الاجتماعي بصورة مطردة.

في مثل هذا المجتمع، الحرية نمط حياة، المسؤولية واجب، المحاسبة قصاص لأولي الألباب، وأخيرا وليس آخراً، الرجل في السلطة هو رجل دولة في خدمة الشعب. أين نحن من كل ذلك؟!