الإمارات وقطر توزيع أدوار أم تنافس صغار

يعتبر الجمعة السابع عشر من كانون الثاني/ديسمبر عام 2010 يوم حرق فيها التونسي محمد بوعزيزي نفسه على الملأ احتجاجاً على الإهانة الموصوفة التي تلقاها من شرطية بلدية لأنه يبيع بضاعته على عربة في أحد شوارع مدينة سيدي بوزيد وهو الخريج الجامعي, يوم تغيير جوهري وتاريخي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المحاذية من الجنوب لأوروبا الديمقراطية ومن الشرق لأسيا الاستبدادية.

هذا اليوم التاريخي الذي شكل انطلاقة ربيع عربي افتقدته الأمة منذ القرن العاشر الميلادي طواه أو كاد يطويه صعود تيار الإسلام السياسي على واجهة الأحداث وإفراغ الربيع العربي من مضامينه الحداثوية, وسوق دوله إلى أصولية سلفية تحت عنوان عريض “الحاكمية للإسلام” عبر صناديق اقتراع لا ينافسهم فيها سوى بقايا دولة العسكر العميقة.

وبالمقارنة بين هذين التيارين المتنافسين الكاسحين اختارت الشعوب التيار الإسلامي في مصر وتونس بينما يتقاسمان كل من ليبيا واليمن وسوريا لأن ربيعها سلك مساراً مختلفاً يقوم على العنف والعنف المضاد بين هذين التيارين في ظل غياب شبه كامل للتيار الديمقراطي العلماني الحداثي.

لقد انقسم الغرب والشرق بين داعم للربيع العربي ومناهض له, واختلف حجم التأييد ونوعيته  لكلَي التيارين اللذين تصدرا المشهد التراجيدي العربي منذ عشر سنوات ونيف ولا يزالان يغرقانه بصراع محموم على السلطة في حين ترزح الشعوب بين مطرقة هذا وسندان ذاك.

ولم تكن قطر والإمارات العربية المتحدة بعيدتين عن هذا الجو بل انخرطتا فيه منذ البداية دعماً, في الظاهر, لعملية تغيير ثورية داخلية في دول الربيع العربي, لكن الحقيقة عكس الظاهر وربما أخطر, فالدولتان صغيرتان ولكن تمتلكان فوائض مالية كبيرة, وقدمتا نموذجاً لدولة الخدمات الاستبدادية العادلة, وبالتالي من المتوقع أن تمارسا سياسة براغماتية تخدم أمنهما من جهة ومصالحهما الاقتصادية من جهة أخرى في منطقة شديدة الهشاشة وتتعرض لزلزال كبير قد تصل اهتزازاته إليهما.

ومن الطبيعي جداً إذا انكفأ الكبار في منطقة شديدة التعقيد كالمنطقة العربية تتجاذبها ثلاثة مشاريع متناقضة, المشروع الصهيوني الإسرائيلي والمشروع الفارسي الإيراني والمشروع الطوراني التركي, أن يتقدم الصغار للعب دور سياسي أكبر منهم ترضى عنه الدول العظمى.

لقد أدرك “الحمدان” الأمير حمد بن خليفة آل ثاني ووزير خارجيته حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني مبكراً معادلات المنطقة في ظل انكفاء دور الثلاثي المصري– السعودي – السوري فتصدرت قطر الجامعة العربية وأمسكت بملفات المنطقة وخصوصاً الملفين اللبناني والفلسطيني مستفيدة من علاقتها الحميمة مع أطراف الصراع, إسرائيل من جهة وحماس وحزب الله من جهة أخرى, واحتضنت قيادات طالبانية مستعدة للتفاوض مع الأميركي حول الملف الأفغاني, وأرست علاقات قوية مع كل من تركيا وإيران ساعدتها في “حلحلة” بعض القضايا والعقد الداخلية مثل اتفاق الدوحة حول أزمة الحكم في لبنان وإعادة إعمار ما دمرته حرب تموز وحروب غزة, وتشجيع التقارب السوري-التركي كما وزعت قطر مساعدات مالية كبيرة على العديد من المنظمات والوكالات الأهلية ورعت حركات سياسية وأحزاباً وتيارات إسلامية عربية.

خلال الربيع العربي، ابتعدت قطر عن دورها التقليدي في السياسة الخارجية باعتبارها وسيطاً دبلوماسيّاً كان له دور بارز في قضايا المنطقة وصراعاتها من لبنان إلى السودان واليمن وفلسطين، وأحرزت نتائج إيجابية في بعضها، لتساهم وتدفع باتجاه التغيير في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ودعم الدول التي تمرّ بمراحل انتقالية.

لقد رأى اللاعبون الإقليميّون أن قطر تبالغ في مقاربتها للربيع العربي، وفي الوقت نفسه ازداد تشكيكهم في دوافعها السياسية.

لكن القيادة القطرية الجديدة، التي استلمت سدة الحكم في حزيران/يونيو 2013، واجهت ضغوطاً متنامية من جانب المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ودولاً أوروبية لإيقاف دعم قطر للإخوان المسلمين وفروعها المحلية في الدول التي تمرّ بمراحل انتقالية, لذا عملت على التأقلم مع الواقع الجديد عبر العودة إلى اعتماد سياسة خارجية أكثر براغماتية، ومعالجة تداعيات دعم قطر للإسلام السياسي في المنطقة, يشجعها على ذلك تصالحها مع السعودية والإمارات ومصر.

لقد شكل حضور مصر القمة الخليجية الـ 42 في الرياض علامة فارقة من المتوقع أن تعيد بعض الحسابات المرتبطة بإعادة توزيع الأدوار في ملفات الربيع العربي الساخنة, سوريا وليبيا واليمن, من خلال “ترييح” العلاقات العربية البينية للعب دور أكبر في معالجتها, وربما تكون القمة العربية القادمة في الجزائر محطة أولى لتصفية النوايا واتخاذ قرارات مهمة ومصيرية.

في هذه الأثناء لم يخطر ببال قيادة دولة الإمارات العربية المتحدة أن تمارس دوراً إقليمياً بارزاً أو رائداً وإنما كانت منشغلة أكثر في قضايا البناء الداخلية, وفي الوقت نفسه تناغمت مواقفها السياسية مع مواقف المملكة العربية السعودية سواء في الملف اليمني (المبادرة الخليجية ومن ثم التحالف العربي وحرب اليمن) أو الملف السوري ( التحالف الدولي ضد داعش, ومساندة بعض الجماعات الإسلامية المعارضة للنظام) أو الملفين المصري والتونسي (دعم التغيير الذي يطيح بالإخوان المسلمين) أو الملف الليبي (دعم الجنرال حفتر ودعم عملية سياسية تطيح بالإخوان المسلمين).

لقد شكل التطبيع السريع مع إسرائيل في إطار صفقة القرن البوابة التي ستعبر منها الإمارات إلى لعب دور بارز في المنطقة بمد أذرعها في جميع الاتجاهات المتعاكسة, فهي طرف في حلف استراتيجي يتشكل في المنطقة في مواجهة إيران وحلفائها، وصار المسار التطبيعي مظلة هذا الحلف وغطاؤه، وهي في الوقت ذاته تقيم علاقات اقتصادية واسعة معها.

ويأتي في هذا السياق اختراق الإمارات لحالة الجمود في العلاقة مع تركيا والاتفاق على استثمارات إماراتية كبيرة لإنقاذ الاقتصاد التركي المتردي، من دون التخلي عن مقارعة الإخوان المسلمين وحواضنهم الإقليمية، ثمناً لمواقف براغماتية تركية تجاه الإخوان المسلمين والعلاقة مع مصر وملف المرتزقة السوريين في ليبيا.

لقد مضى الزمن الذي كان فيه أردوغان يمسك بورقة خطيرة بحسابات الأمن القومي الإماراتي: ورقة الإسلام السياسي الذي يتهاوى، بداية من مصر، مروراً بالمغرب وهزيمة العدالة والتنمية، إلى العراق وصفر مقاعد في الانتخابات الأخيرة، وأزمة النهضة في تونس، وتراجع شعبيته في ليبيا أمام عملية انتخابية يدرك أنه لن يربحها أمام الجنرال حفتر في الشرق وسيف الإسلام القذافي في الجنوب وتراجع شعبيته في غرب ليبيا, وانكفاء دوره في سوريا وانحساره في شمال غرب سورية مدعوماً فقط من تركيا.

ضمن خارطة طريق الدور الإماراتي الجديد تسعى أبو ظبي لبناء علاقة متينة مع طهران تؤهلها لتكون الشريك الاقتصادي الأول لإيران طالما الولايات المتحدة الأميركية عازمة على عقد صفقة جديدة مع إيران حول الملف النووي وملحقاته مقدمة مصالحها على مصالح دول المنطقة. تبلغ قيمة المبادلات التجارية بين البلدين حالياً 15 مليار دولار، مع وجود رغبة بزيادتها إلى حدود 30 مليار دولار بحلول العام 2025 .

وخلال العام الماضي، بلغ حجم الصادرات الإيرانية إلى الإمارات ما يعادل 3.3 مليارات دولار، وحجم الواردات الإيرانية منها 6.3 مليارات دولار ، لتصبح الإمارات ثاني أكبر شريك تجاري لإيران بعد الصين.

لقد أدركت الإمارات حديثاً أن رؤية السعودية 2030 التي أطلقها ولي العهد السعودي الشاب محمد بن سلمان، تحمل في طياتها تهديداً لمكانة الإمارات ودورها التقليدي، وأن مشروع “نيوم” السعودي سيكون منافساً لدبي، مثلما هو منافس للدوحة، علاوة عن رغبتها الحثيثة للاستقلال عن السعودية عبر تقديم رؤية خاصة تقوم على توثيق علاقاتها مع اللاعبين الإقليميين الكبار: تركيا، إيران وإسرائيل, من دون أن تسقط من حساباتها، تعزيز مكانتها في المنظومتين الإقليمية (مجلس التعاون الخليجي ) و( الجامعة العربية ).

ومن غير المستبعد أن تتغلب المنافسة بين البلدين على التنسيق والتعاون فيما بينهما، في عدة ميادين تتخطى سوق الطاقة إلى الاستثمار والترانزيت والتجارة والترفيه والسياحة خصوصاً بعد أن أطلق محمد بن سلمان استراتيجية عصرنة الدولة بالفكاك من أسر “الوهابية الأرثوذكسية” و”الذهنيات القَبْلية المعطلة”.

لا شك أن الدور الذي تضطلع به كل من قطر والإمارات على الساحة الإقليمية والدولية عموماً والعربية على وجه الخصوص يثير الكثير من التحليلات والتساؤلات. فمن جهة يبدو من بنية علاقاتهما الإقليمية المتشابهة مع دول لا تخفي طموحاتها للهيمنة على المنطقة العربية أنهما تتبادلان أدواراً تلقى التشجيع من دول عظمى على جبهة العلاقات الإقليمية تجعل منهما شريكاً عربياً مقبولاً من إسرائيل وإيران وتركيا.

 ومن جهة أخرى يبدو من اختلاف رؤيتيهما لمسارات الربيع العربي ومآلاته وتموضعهما في جبهتين مختلفتين (عسكر وإخوان) أنهما تتنافسان على قيادة المنطقة العربية لملء الفراغ الذي أحدثه انكفاء الكبار وانشغالهم في مشكلاتهم.

وفي الحالتين يبدو أن المنطقة العربية ذاهبة إلى تسويات تاريخية داخلية وإقليمية عسيرة ومعقدة تلعب فيها قطر والإمارات دوراً بارزاً ومؤثراً, مع عودة محتملة للكبار بعد إعادة صياغة استراتيجياتهم في إطار هذه التسويات. وقتئذٍ يدرك الصغار أن المال وحده لا يكفي للتنافس في حسابات الأحجام في منطقة تغلي على صفيح ساخن.