أنماط الأحزاب

في المؤتمر الثاني لحزب العمال الاشتراكي- الديمقراطي في روسيا، المنعقد في بروكسل عام 1903، انقسم الحزب إلى جناح بلشفي وآخر منشفي. حصل الانقسام بسبب الخلاف على سطر واحد من النظام الداخلي، واحد قدمه لينين هو التالي: “يعتبر عضواً في الحزب كل من يعترف ببرنامجه السياسي ويؤيده مادياً ويشترك شخصياً في احدى المنظمات الحزبية”، فيما كان المقترح الثاني الذي قدمه مارتوف: “يعتبر منتسباً إلى الحزب كل من يعترف ببرنامجه السياسي ويعمل بنشاط على تنفيذ مهامه تحت رقابة هيئات الحزب وقيادتها”.

فوجئ الصديقان لينين ومارتوف، وهما كانا يعملان لسنوات عديدة بتعاون وثيق في هيئة تحرير جريدة الحزب المركزية: “الايسكرا/الشرارة”، بانفجار الخلاف بينهما من شرارة السطرين المختلفين، ثم فوجئا بأن هذا الخلاف هو رحم قام بتوليد قضايا عدة، فكرية وسياسية، ظهرت تباعاً أثناء المؤتمر وهو ما أنشأ جناحين متصادمين بالمؤتمر تجابها في الذروة المؤتمرية عند انتخاب اللجنة المركزية لينال فيها لينين الأكثرية (بولشفيكي: الأكثريون) ومارتوف الأقلية (منشفيكي: الأقليويون).

وظل الكثيرون ومنهم تروتسكي ومعتدلون لدى الطرفين، حتى عام 1912عندما أعلن لينين في مؤتمر براغ بأن البلاشفة هم الحزب وتخلى عن التصرف كأحد جناحي الحزب، يظنون أن الخلاف صغير أو ثانوي وأن ما يجمع أكثر مما يفرق، إلى أن قالت الأيام بأن هذين السطرين المختلفين يعنيان نمطين مختلفين لحزبين يجمعهما الماضي واسم مشترك ولكن يختلفان في الفكر والسياسة وفلسفة التنظيم.

وعملياً، لم يقد هذان السطران فقط إلى حزبين مختلفين بل إلى مكان بعيد بعد ثورة أكتوبر1917 البلشفية، أي إلى تيارين مختلفين ضما عشرات الأحزاب في كل جهة منهما،هما التيار الشيوعي الذي انتظم في الأممية الثالثة التي أسست عام 1919 والتيار الاشتراكي الديمقراطي الذي تابع الوجود في الأممية الثانية التي أسست عام 1889.

هنا، تعني صيغة لينين بنية حزبية عضوية تكون فيها مركزية القيادة على مجمل الهيكلية التنظيمية التي هي مجموع الأفراد الحزبيين المنتظمين تراتبياً في منظمات تكون فيها اللجنة المركزية أعلى الهيكل التنظيمي، وتكون هذه المنظمات أوامرياً  خاضعة تسلسلياً للأعلى في التنظيم الحزبي (مثلاً :فرعيات تخضع للجنة المنطقية التي تكون قيادة الحزب في المحافظة كتقسيم جغرافي، وفرق تخضع لفرعية الحي أو المنطقة أو المعمل أو أصحاب مهنة، واللجان المنطقية تخضع للمركزية التي يمكن أن تقوم بإنشاء منظمات تابعة لها مباشرة مثل تنظيمات الجامعات أو تنظيمات أخرى، كما يكون الأفراد أوامرياً خاضعين لمن هو مسؤولهم التنظيمي في منظمتهم الحزبية.

هذه الصيغة المركزية التنظيمية عند لينين ناتجة عن رؤيته الفكرية بأن الحزب ليس فقط مصدِراً للوعي الطبقي- السياسي إلى الطبقة الاجتماعية التي يمثلها بل وأيضاً لأن الحزب هو قائد هذه الطبقة نحو تحقيق أهداف معينة عبر إرادة سياسية، يرى لينين أنها لا يمكن أن توجد سوى في الحزب الذي هو بنظر القائد البلشفي أداة تنفيذية لابديل عنها للوصول لتلك الأهداف.

هذه الإرادوية السياسية، التي هي حصيلة للنزعة الطليعية، أفادت لينين في ثورة أكتوبر عندما امتزجت وانبنت مع تنظيم متماسك أثناء تحريك حركة جماهيرية، كما أن هذا التنظيم المتماسك كما أفاد في فترة المد الثوري بالنصف الثاني من عام 1917 فإنه قد حمى الحزب في فترة التراجع والعمل السري بعد هزيمة ثورة 1905 وهو مالم يحصل لتنظيم أقل تماسكاً كان موجوداً عند المناشفة.

عند مارتوف تحوي رؤيته التنظيمية جنينياً أو ضمنياً أن علاقة الحزب بالطبقة الاجتماعية ليست رسالية، أي تصدير الوعي، وإنما علاقة تمثيلية، أي برنامج سياسي يقدمه الحزب ثم تأتي الطبقة الاجتماعية أو الفئات أو الأفراد ليقبلوه أو يرفضوه حسب وعيهم وميولهم، وأن الناس لديهم القدرة على التمييز بين البرامج والقدرة على الاختيار بينها، وهذا يمكن أن يتم في الأنظمة الديمقراطية عبر صندوق الاقتراع لانتخاب ممثل حزبي سياسي أو عند منعطف سياسي عندما يختار الناس وفق تنضداتهم الاجتماعية هذا الخط السياسي أو ذاك.

برأي مارتوف، وهذا برز في ثورتي 1905 وثورة شباط 1917 الروسيتين، أن الثورات تقوم عفوياً وأن وظيفة الأحزاب في الثورات أو بعدها تقديم البرامج وليس القيادة وإذا كان هناك من تحريك للشارع فهذا يتم عبر مؤسسات مثل سوفياتات العمال التي كان المناشفة متحمسين لها أكثر من البلاشفة في ثورة 1905 وكان رأي البلاشفة أن تسيطر الأحزاب على السوفياتات وقد ظل لينين متردداً لأسابيع عند تأسيس سوفيات عمال بطرسبورغ الذي رأسه تروتسكي قبل أن يعطي تأييده له وكان بلاشفة قد شاركوا في تأسيسه من دون انتظار رأي القيادة.

وحتى عندما أيد الزعيم البلشفي السوفياتات للعمال والجنود بعد ثورة شباط فإن هذا عنده كان وسيلة وكأداة للثورة وطريقاً  لكي يصل الحزب البلشفي للسلطة، وهو ما نجح فيه لينين في ثورة أكتوبر ولكن لإقامة سلطة بلشفية وليس سلطة سوفياتية.

هنا في الحزب، الذي يرى أنه يحمل رسالة وأنه يمثل طليعة تقوم بـ”بتصدير الوعي” إلى الطبقة الاجتماعية التي لا تستطيع حسب لينين الوصول إلى “أكثر من الوعي العفوي”، يكون التنظيم قوياً ومحكماً ومركزياً، بينما في الأحزاب التي ترى علاقتها بالطبقات والفئات الاجتماعية بأنها ذات طابع تمثيلي، مثل الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية أو الليبرالية أو التي ذات طابع وطني عام مثل حزب المؤتمر في الهند أو الكتلة الوطنية في سوريا أو حزب الوفد في مصر أو حزب الاستقلال في المغرب، فإن التنظيم الحزبي يكون رخواً وفضفاضاً ولا يستنفر سوى أيام الانتخابات.

حزب البعث قريب في التنظيم المركزي من نموذج الأحزاب الشيوعية، وهو مثلها حزب يؤمن بالطليعية والرسالية.

الأحزاب الناصرية لها نزعة طليعية ولكنها أخف من الشيوعيين والبعثيين وهي لديها ميول شعبوية تجعلها تراهن كثيراً على العفوية الجماهيرية.

جماعة الإخوان المسلمين تؤمن بالطليعية والرسالية وهي تعتقد كما يقول حسن البنا بأن وظيفتها تصدير الوعي عبر “الدعوة إلى الرجوع إلى تعاليم الاسلام والتنفير عن هذا التقليد الغربي الأعمى وعن مفاسد قشور المدنية الغربية” كما ورد في كتابه “مذكرات الدعوة والداعية”.

وحسن البنا مثل لينين ينطلق من الإيمان بالتنظيم الذي يكون طليعة تحمل رسالة أو وعياً  ليصل إلى أن المسلمين لا يستطيعون بذاتهم العفوية تحقيق ذلك بل هناك حاجة إلى جماعة منظمة تقوم بتلك المهام الثلاث التي تعني العودة لما كان الأصل في عهد النبوة.

كتكثيف: هناك ترابط في كل حزب بين الفكر والسياسة والتنظيم، وقد كان الخلاف بين البلاشفة والمناشفة حول التنظيم يحمل في رحمه خلافاً حول الفكر والسياسة، وفي أحزاب أخرى يكون الخلاف حول الفكر مؤدياً إلى انشقاق تنظيمي، كما في انشقاق الشيوعيين عن الاشتراكيين الديمقراطيين في ألمانيا عام 1918 بزعامة روزا لوكسمبورغ.

كما أن الخلاف السياسي يمكن أن يقود إلى خلاف فكري يتبعه انشقاق تنظيمي، كما جرى من قبل الدكتور جمال الأتاسي في خلافه مع حزب البعث حول شروط عودة الوحدة السورية- المصرية في فترة ما بعد الثامن من آذار/ مارس 1963 وهو ما قاده إلى تبني الفكر الناصري وتأسيس (الاتحاد الاشتراكي) عام 1964.