كاميلوت شمال شرقي سوريا

تعجّ حياة السوريين في الداخل بالتفاصيل اليوميّة المليئة بالخوف والتحفّز لتلقّف الأسوأ، فيما  تشتدّ الأوضاع سوءاً، وما من بارقة أمل حتى اللحظة.

تبدو هذه العبارة وحدها تلخيصاً رتيباً لأحوال السوريين عاماً بعد آخر، لكنها في الغالب أفضل من الاشتغال على بانوراما للحديث عن 2021 بوصفه عام مراكمة الفشل السياسي، وتدهور الأوضاع المعاشية والإنسانية، وأما على صعيد الحديث عن شمال شرقي سوريا، لا بد لنا من التعكّز على الجملة المنطقية القائلة أنّ “الجزء يتبع الكل”، أو بمعنى أكثر جلاءً، تبقى الأوضاع هناك انعكاساً للوضع السوري العام، رغم فكاك المنطقة أمنياً عن منظومة النظام والتخلّص الجزئي من ربقة سياساته الاقتصادية، إلّا أن المنطقة التي تكنّى أيضاً “الجزيرة” ليست جزيرة بالمعنى الذي يأخذنا إلى تصوّر عزلتها عن بقية سوريا وسوء أوضاعها.

قد يكون العنوان اللافت في شمال شرقي سوريا هو الحديث عن جهوزية واستعداد الإدارة الذاتية للحوار مع النظام، تحت ظلال الوساطة الروسية، وبدعم مضمر من الأميركان، أو أقلّه عدم ممانعة أميركية في هذا الاتجاه، ولكن هذا العنوان الذي كان الأبرز خلال النصف الثاني من العام الحالي، بقي كلاماً في الهواء، إذ لم يتجسّد إلى فعلٍ حقيقي، تارة لأن النظام يراهن على عناده وهو منهجه الأثير مذ تدخّلت موسكو لنجدته عام 2015، وتارت أخرى لغياب الجدّية الروسية وانشغال الأميركان عن الملف السوري وتقديم مقابل مقنع لموسكو، فيما كانت الأخيرة فرّطت في أواخر عام 2019 بفرصة تسوية سعت إليها إدارة ترامب، ولولا فائض الطموح الذي استبدّ بالرئيس الروسي، بوتين، الذي خال بأن خروج الولايات المتحدة من سوريا ما هو إلّا مسألة وقت، وما من موجبات فعليّة تدفعه للخوض في “تفاوض” رسميّ مع إدارة تلملم حقائبها للرحيل عن سوريا حال دون الوصول إلى تسوية ما. هكذا أضاع الروس فرصة مقايضة أو تسوية كانت لتكون الأمثل قياساً إلى المساعي الحالية مع إدارة بايدن المتطلّبة والتي تجيد لعبة “عضّ الأصابع” مع الأطراف التي تتحيّن فرصة جلاء قوّاتها.

وفي نظرة معمّقة للمعضلات التي تؤخّر الحوار فإننا نعثر على أسباب شتى، غير أن ما قد يمثّل عقدة النجّار الفعلية هي رغبة دمشق في أن تنفرد بكرد سوريا أو بجزء منهم، كان هذا فحوى رسائل روسيّة أيضاً، وهو ما قد يجرّد الكرد السوريين من تحالفٍ بات وثيقاً مع عرب وسريان يطمحون إلى تقليص دور ونفوذ النظام في الجزيرة السوريّة، وبعيداً عن النوازع الأخلاقية التي تحول دون التفريط بتحالف نشأ على هدي انسحاب الحكومة وبروز “داعش”، فإننا نعثر على منافع ومصالح مشتركة تجمع الإثنيات الرئيسية، العرب والكرد والسريان الآشوريين، ولعلّ أوّلها وأهمها على الإطلاق هي الخشية من انتقام النظام، أو لنسمه ثأره الشخصي من القوى والأفراد المعترضين على حكمه منذ العام 2011، لا سيّما أننا في إزاء نظام يقيم وزناً لمسائل التأديب حتى وإن استسلم معارضوه ومناهضوه وارتضوا بعودته وحكمه، فيما تشير الوقائع إلى نقطة واحدة وهي أن النظام لا ينسَ ولا يسامح، وهذا ما يساهم في تعاضد الإثنيات الجزراوية ويوحّد من مصائرها اللاحقة، وهذا يضاف إلى تتبّع المجتمعات الأهلية، لا سيّما العشائر، لسِيرَ “المصالحات” بدعم روسيّ، وما استتبعها من إذلال ومهانة، واعتقال وعقاب في غير منطقة ارتضى سكّانها الاحتكام للمصالحات بإشراف روسيّ.

قد يحمل العام القادم دعوات متجددة تدعو إلى التفاوض والخوض في عملية سياسية جدّية، بالنظر إلى تململ الروس من خروج الأميركان وفق ما ظنّوه قاب قوسين، ولكن التململ الروسي متوقّف على طبيعة السعار التركي الذي استفادت منه موسكو في إطار التضييق على واشنطن، وتوقّف هذا السعار هو أسير الأوضاع الداخلية التركية بالدرجة الأولى وثبات واشنطن على موقفها في حماية حلفائها في سوريا، يضاف إلى ذلك حاجة النظام إلى موارد شمال شرقي البلاد، والتي بدأت تزداد باضطراد يتناسب مع حجم فشله الاقتصادي والخدمي.

 قبول النظام، وإن لمرّة واحدة، بالحل السياسي والتخلّي عن منطق الحسم العسكري على ما يحويه من قسوة ودمار وتعاظم مشكلاته وأزماته مع المجتمع الدولي، يمهّد الطريق أمام تعويمه جزئياًّ، إن لم نقل أنّه شرط تعويمه والتوقّف عن نبذه. إلّا أنه وبدافع من التشاؤم المديد، يبدو هذا الخيار على واقعيته وعقلانيته بعيد المنال، ذلك أننا في إزاء نظام تغيب عنه هاتين المسألتين، فيما تحضر في مخيلته مسائل الانتقام والتأديب والاستفادة من التناقضات الدولية والإقليمية والداخلية.

وبمعزل عن ما هو متوقّع حيث رفض النظام شكل وصلاحيات وربّما تسمية “الإدارة الذاتية” وعدم تقبّله لأن تشكّل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والأمن الداخلي “الأسايش” جزءاً من المنظومة الدفاعية السورية، فإنّ المتوقّع الأبرز قبل أن يخوض النظام في هاتين المسألتين (الإدارة والقوّات المسلّحة) هو إصراره على التفاوض مع الكرد، وفي هذا تفكيك للتحالف الإثنيّ الناشئ في الجزيرة، وفي مثل هذه الحالة فإن الانفراد بعرب الجزيرة أو بكردها أو بسريانها، يعني في باب ما تفريقاً يؤدي إلى أن يسود النظام، فيما العكس بالعكس، بمعنى أن تصبح السياسة طريقة لتجميع القوى والأفراد والإثنيات، إن تبعاً للمصالح المشتركة أو إضفاءً لبعد وطنيّ لا ينبغي أن يغيب عن العمل السياسيّ في الحالة الكردية، بذا تصبح الصيغة الأقرب للصواب هو التحالف وفق مبدأ الكاميلوت حيث “الكل للواحد، والواحد للكل”.