الكراهية المؤسسة للسياسة

إذا كان من غير المؤكد إنجاز حل سياسي في المستقبل المنظور، فإنه من الأجدى العمل على كيفية إزالة أخطر مشكلة تواجهه، وهي مشكلة الكراهية التي تراكمت في النفوس وتكاد تعمي البصيرة.

اليوم يعيش المجتمع السوري الكراهية في استسهال لافت، ليس فقط بين المعارضة والنظام، بل صارت حاضرة للأسف لدى جميع فئات المجتمع، لدى تلك التي تؤيد المعارضة وتدعمها، ولدى تلك التي لا تزال تقف إلى جانب النظام وتدعمه، وحتى لدى الفئات التي يبدو أنها تقف على الحياد وهي ضمنياً ليست كذلك، ولكل أسبابه الخاصة لكي يكره.

لقد انصبت كراهية الفئات التي تؤيد المعارضة منذ البداية على النظام السياسي، وكانت نوعاً من الكراهية السياسية في مجتمع غابت عنه السياسة لعقود من السنين.

لكنها فيما بعد وخصوصاً بعد القمع الشرس الذي تعرض له الحراك الشعبي والقوى السياسية المعارضة من قوات النظام الأمنية والعسكرية وسقوط آلاف الشهداء تحولت الكراهية لديهم إلى نوع من الحقد الاجتماعي البدائي، وصار معها النظام وحلفاؤه أعداء بدلا من خصوم سياسيين.

والنتيجة المنطقية المترتبة على هذه الوضعية، والظاهرة في مختلف أشكال التعبير السياسية وغير السياسية لدى المعارضة (بروز الخطاب الطائفي) هي أنه لم يعد من الممكن أن تقبل بأقل من القضاء على عدوهم السياسي الذي تجاوز في وعيهم حدود النظام السياسي ليشمل القوى والفئات الاجتماعية الداعمة له.

وأكثر من ذلك فقد استطالت كراهية المعارضين لتشمل الدول الداعمة للنظام السوري مثل روسيا والصين وإيران، وتوعدت بضرب مصالحها في سورية وقطع العلاقات معها في حال وصلت إلى السلطة.

وحتى المقاومة اللبنانية التي لطالما تغنى السوريون بها وبانتصاراتها صارت من وجهة نظر المعارضين للنظام متآمرة ينعتونها بشتى النعوت المقذعة.

من جهة أخرى يمكن القول إن النظام السياسي في سوريا تعامل منذ البداية مع الثائرين والقوى الداعمة لهم بنوع من الحقد، فهم “خونة” أو ” عملاء” في خطابه السياسي والإعلامي، وتوجب سجنهم أو تصفيتهم في ممارساته الأمنية.

انتقل هذا النوع من الخطاب من دوائر النظام لينتشر ويسيطر في خطاب الفئات الاجتماعية والسياسية الداعمة له. وكما في حال المعارضة فقد تجاوز كره النظام وأعوانه ومؤيديه حدود المعارضة ليشمل مدناً ومناطق بكاملها ولسان حالهم يردد لتذهب حمص وحماة، أو إدلب ودرعا، بل البلد كله إلى الجحيم وليبقَ النظام.

وتخطى كرههم حدود المعارضين لهم ليشمل دولاً صارت عدوة تقف في مقدمتها السعودية وقطر وتركيا، مع أنهم حتى الأمس القريب كانوا يتفاخرون بصداقة هذه الدول لهم، وكانت العلاقات معها مضرب مثل على حنكة قائدهم السياسية.

بدورها الفئات التي تبدو صامته فإنها توزع كراهيتها على الجميع، فهي تلوم المعارضة لأنها عكرت عليها رتابة حياتها، وتلوم النظام لأنه لم ينجز الإصلاحات المناسبة للشعب، وتلوم جميع دول العالم لأنها تتفرج بحسب اعتقادهم على ما يجري في سوريا من قتل وتشريد وتهديم لكيان الدولة.

في مناخات الكراهية هذه حيث بدأت ترتفع جدران العزل الاجتماعي والسياسي ثمة مخاوف جدية تجاه اعادة توحيد الشعب والبلد.

ومعلوم شعار القوى المؤيدة للنظام ” الأسد أو نحرق البلد”، ومعلومة أيضاً شعارات الثائرين ضده وكثير من معارضيه التي لها المعنى ذاته “إسقاط الأسد أو نحرق البلد”، وبين الشعارين تم حرق البلد بالفعل.

الشعب الذي كان يتفاخر بوحدته الوطنية صار الخطاب الطائفي لديه اليوم يشغل الواجهة بصورة متطرفة.

لقد انزاحت الشعارات الوطنية الجامعة في أشهر الانتفاضة الأولى من قبيل ” واحد واحد الشعب السوري واحد “، أو شعار “لا سلفية ولا إخوان بدنا دولة مدنية”، ليحل محلها “العلويون إلى التابوت والمسيحيون إلى بيروت” أو “لا علوية ولا بعثية بدنا دولة إسلامية” لتبقى مضمرة في الخطاب المعارض السلفي والموالي لتركيا بصورة عامة.

المسؤولية الأولى عن هذه الوضعية يتحملها الاستبداد ممثلاً في النظام السياسي القائم، فهو المسؤول أولا وأخيراً عن إراقة دماء السوريين سواء الموالين منهم أم المعارضين. وأكثر من ذلك هو المسؤول عن إنعاش البنى الأهلية ودفعها لتأخذ تعبيرات طائفية في الحقل السياسي، وهذا نهج عمل عليه النظام منذ بضع عقود من السنين ليكون جاهز للاستخدام عند الحاجة، واليوم يجني ثماره.

كلمة أخيرة؛ إذا كان من طبيعة السياسة أن تقوم على أسس من المصالح، فتكبر بكبرها وتصغر بصغرها، فالحياة في البداية والنهاية تقوم على المصالح التي تديرها وترعاها السياسة، وإنها في سوريا اليوم وبسبب النظام والإسلام السياسي وبصورة خاصة المتطرف منه بدأت تتأسس للأسف على الكراهية.

ولذلك ثمة مسؤوليات كبيرة تقع على عاتق المعارضة السياسية الوطنية الديمقراطية في بذل الجهود لإعادة تأسيس السياسة في سوريا على المصالح وليس على الكراهية، لكن ذلك يتطلب أولا وقبل كل شيء ازالة الاستبداد من المجال السياسي كمقدمة لإزالته من مختلف أشكال الوجود الاجتماعي في سوريا.