في ظل عدم بلورة الإدارة الأميركية لسياسة حقيقية وواضحة حيال الأوضاع المتردية في سوريا، ينتقد سياسيون أميركيون طريقة تعامل هذه الإدارة، الذي يساعد على توتير أزمات منطقة الشرق الأوسط بل والعالم أيضاً، من حيث ظهور تنظيمات متطرفة جديدة و أزمة الهجرة إلى البلدان الأوروبية وإلى الدول المجاورة، وتهديد المصالح الأميركية بتدخل أطراف إقليمية لا تخفي أطماعها في سوريا, ورغبتها بالتوسع على حساب دول المنطقة.
فإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، تعتبر من الإدارات الوحيدة التي لم تولي اهتماماً كبيراً للملف السوري، فقرارها نزع صفة الأولوية عن الصراع الدائر والمستمر في سوريا يأتي في وقت لا تخفي تركيا أطماعها في الشمال السوري, وإيران لم تتوقف عن الضغط لتوسيع نفوذها في جنوب وشرق وشمال سوريا لاستخدامه في مفاوضات ملفها النووي مع الدول العظمى, ولا تتوانى إسرائيل عن ضرب المواقع العسكرية السورية التي تتواجد فيها قوات إيرانية أو شحنات السلاح الإيراني إلى حزب الله اللبناني عبر سوريا.
يقول جيمس جيفري إنه في وقت يركز فيه بايدن وإدارته على الملف النووي الإيراني، فالحرب لا تزال مشتعلة في سوريا، واصفاً إياها “بالجرح المفتوح في قلب الشرق الأوسط”.
وشدد على أن موقف الإدارة الأميركية الحالية سيء للغاية في ظل استمرار الصراع, وأكد أنه مع تغير الحالة وتبلور حل وسط محتمل، ينبغي على المسؤولين الأميركيين أن يعيدوا تقييم قراراتهم حيال سوريا، والمشاركة بجدية في الحل السوري.
وأضاف أن تجاهل الصراع في سوريا تترتب عليه مخاطر كبيرة، لذلك على واشنطن أن تقود أي جهد دبلوماسي للتوصل لحل دائم للصراع السوري, عوضاً عن ترددها والكشف عن نواياها بالانسحاب من سوريا عند كل مفترق أو تغيير في البيت الأبيض .
إن تردد سياسة الديمقراطيين حيال المسألة السورية وهشاشة موقفهم حيال بقاء قوات رمزية أميركية شرق الفرات, ودعم قوات سورية الديمقراطية في حربها ضد بقايا الإرهاب الداعشي, يخفي في طياته جملة إغراءات لتركيا، وفي الوقت نفسه يجدد أطماعها على نحو ما في إدارة الشمال السوري ،شرق وغرب الفرات، للقضاء على أية طموحات كردية هناك.
وهذا بحد ذاته لا يتناقض مع طموحات الحكومة السورية بإعادة المنطقة إلى سيطرتها وفق شروط لم تخفها قط في أية مفاوضات برعاية روسية مع مجلس سورية الديمقراطية (مسد).
ومن جهة ثانية فإن أية علاقة ستضع الحكومة السورية في مواجهة تركيا في المنطقة لن تتجاوز حدود اتفاق أضنة لعام ١٩٩٨ الذي يسمح في الملحق رقم ٤ لتركيا باتخاذ جميع الإجراءات الأمنية اللازمة داخل الأراضي السورية حتى عمق ٥ كم, وفي المنطقة الممتدة من رأس العين حتى تل أبيض التي غزتها تركيا في الماضي بتواطؤ روسي- إيراني وصمت أميركي وبعمق 30 كم لملاحقة من تصفهم الحكومة التركية بالإرهابيين من حزب العمال الكردي المعارض لأنقرة، ما يعني في نهاية المطاف قبول تركيا تسليم المناطق شرق الفرات للحكومة السورية في إطار أي تفاهم بين الدول الضامنة في أستانا التي تشارك فيها كل من الحكومة السورية ومعارضتها الإسلامية الخاضعة لتركيا.
إن منطقة منبج الواقعة غرب الفرات هي البوابة الغربية لمنطقة الإدارة الذاتية شرق الفرات، وطريق عبور محتمل القوات التركية والمجموعات الإسلامية المسلحة الخاضعة لها إلى شرق الفرات، لذلك لا يتوانى أردوغان عن قرع طبول الحرب والتهديد باحتلال مناطق الإدارة الذاتية.
وفي سياق خلط الأوراق هناك عادت قوات الحكومة السورية إلى مواقعها السابقة التي تخلت عنها هي وحليفها الروسي في السابق مع احتلال تركيا لعفرين. فمن جهة تريد الحكومة السورية الضغط على قوات سوريا الديمقراطية ومجلس منبج العسكري لإعادتهم إلى حضن النظام، ومن جهة ثانية تريد توجيه رسالة إلى تركيا مفادها أن أية ترتيبات أمنية وعسكرية في الشمال السوري من منظور أمنها القومي لن تكون إلا معها.
وفي الحالتين، الخيارات الممكنة للإدارة الذاتية بجناحيها السياسي والعسكري محدودة ، فإما التفاوض مع الحكومة السورية عبر حليفها الروسي لتسوية وضع منطقة الجزيرة ومنبج بالحدود الدنيا سياسياً التي تعترف بحقوق المكونات هناك وخاصة المكون الكردي، أو تجميده بدخول الجيش السوري إليها لحفظ أمن الحدود مع تركيا مع بقاء الإدارة الذاتية في المناطق المأهولة إلى حين تتم التسوية العامة للمسألة السورية عبر خارطة طريق دولية في إطار القرار 2254 أو من خارجه أو عبر حوار وطني وشامل يطلق حلولاً وتسويات وطنية لجميع ملفات المسألة السورية.
أو عبر مفاوضات ثنائية أو متعددة الأطراف برعاية دولية إذا اقتنعت بها أطراف الصراع الداخلية المعنية، وبصفة خاصة الحكومة السورية بضغط مباشر وجدي من حليفها الروسي, الذي غدا أكثر فأكثر مقتنعاً بضرورة التوصل إلى تفاهمات جدية ين الحكومة وقوات سوريا الديمقراطية، وبينها والائتلاف السوري المعارض والحكومة التركية، ومن ضمنها ملف حقوق الأقليات الأثنية.
وفي جميع الخيارات ليس أمام الإدارة الذاتية سوى المقاومة السياسية والعسكرية إن دعت الحاجة لمواجهة أية أطماع تقضي على طموح مكوناتها الأثنية في سوريا علمانية ديمقراطية لامركزية.
إن تهديدات حكومة العدالة والتنمية التركية المتكررة لاجتياح ما تبقى من الشمال السوري بحجة أمنها القومي ما هي سوى تطمينات للجمهور التركي لحرف أنظاره عن المشكلات الداخلية التي قد تزعزع أركان المشروع التركي الإخواني.
وفي الوقت ذاته تحقيق أطماعها الاقتصادية والجيوسياسية في الشمال السوري والتي لا تخفيها التصريحات المتكررة للقيادة التركية وأيضاً من قبيل الضغط على الاتحاد الأوروبي لتخفيف ضغوطاته الاقتصادية والمالية على تركيا التي اقتربت مديونيتها الخارجية من نصف تريليون دولار أميركي هذا العام، منها ديون قصيرة الأجل مستحقة خلال عام أو أقل بـ169.5مليار دولار وتعادل نحو ربع الناتج المحلي التركي.
كما فقدت الليرة التركية هذا العام أكثر من 13% من قيمتها ما قد يؤشر إلى مخاطر حدوث انكماش حاد في الاقتصاد التركي يهدد وجود حكومة العدالة والتنمية في قيادة تركيا في أية انتخابات قد تكون مبكرة.
عندئذٍ يصبح أي صمت سوري، بما فيه صمت الحكومة السورية وصمت المعارضة الإسلامية أو أية معارضة أخرى حيال الأطماع والمناورات التركية العسكرية والسياسية في عموم الشمال السوري مريباً ومحل قلق من أن تكون ثمة تفاهمات ثنائية من تحت الطاولة برعاية روسية وغطاء أميركي مقصود.
وقد لا تتعدى كونها محاولة ربما أخيرة في عملية عض الأصابع بين حكومة دمشق والإدارة الذاتية من جهة وبينها والمعارضة الإسلامية من جهة أخرى من أجل تحسين شروط واشتراطات كل منها في أية عملية تفاوضية ترعاها الأمم المتحدة من جديد، والتي ما من شك ستكون على حساب الشعب السوري ما لم تكن مسبوقة بحوار وطني منتج .
صحيح أن أردوغان قد فشل, مبدئياً, في نيل موافقة موسكو وواشنطن على غزو مناطق الإدارة الذاتية، ما اضطره للإعلان عن تأجيل الغزو, لكن احتمال أن تتواطأ الدولتان العظميان وأطراف إقليمية فاعلة في المسألة السورية لا يجب عن يغيب عن استراتيجية (قسد) العسكرية ولا تحركات (مسد) السياسية، لأن تركيا من وجهة نظر الدولتين العظميين هي بيضة القبان، التي توازَنُ بها توازنات المصالح الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط كون تركيا ترتبط بشبكة علاقات واسعة مع جميع الدول المتدخلة والفاعلة في المسألة السورية.
ويراد من تحريك المعارضة الإسلامية المسلحة المجمعة في محافظة إدلب وشمال حلب في معارك تركيا المحتملة في منبج غرب الفرات أو في مناطق سوريا الديمقراطية شرق الفرات خلط الأوراق في المنطقة ووضع قوات سوريا الديمقراطية والجماعات الإسلامية المعارضة في مواجهة بعضها البعض، وفي ذلك مصلحة مشتركة لأطراف أستانا الضامنة يخدمها التردد الأميركي الذي يلوّح في كل مرة بالانسحاب من شمال شرق سوريا ويثير أطماع تركيا ويدفعها إلى مغامرات جديدة.